الأربعاء، 15 أكتوبر 2008

صلب المسيح وعقيدة الفداء عند النصارى


دين النصارى دين مليء بالغرائب والتناقضات ، وليس أقل تلك الغرائب البدعة التي اخترعها النصارى فيما يتعلق بصلب المسيح – عليه السلام – وليست الغرابة في دعوى صلبه – فقد قتل قبله أنبياء كثيرون – لكن الغرابة في فلسفة تلك الحادثة المخترعة التي تحولت في نظر النصارى من مصدر للألم ، إلى مصدر للفرح والسرور ، إذ يعتقد النصارى أن المسيح – عليه السلام – ابن لله عز وجل وهو في ذات الوقت إله مساو لله أو دونه – على خلاف بينهم في ذلك - وهنا مصدر الإشكال ، إذ كيف لابن الإله أن يصلب ، ويهان ، ويعلق على خشبة ، ويبصق في وجهه في مشهد تتفطر له الأكباد ؟‍‍‍‍‌‍‍‍‍!! فلأي شيء يترك الإله ابنه ، بل كيف للابن – الذي له صفات الإله في نظرهم – أن يترك حفنة من اليهود التعساء تفعل به هذه المهانة ، بل وتسخر منه أمام الملأ قائلة : يا من يدعي أنه يبني الهيكل في ثلاث ، كيف لا تستطيع أن تخلص نفسك ، كل ذلك وابن الإله " الإله " عاجز عن دفع الضر عن نفسه فضلاً عن أن يوقع الضرَّ بغيره ممن صلبه .

ويذكر النصارى في أناجيلهم أن المسيح صاح جزعا : "إيلي، إيلي، لَمّا شَبَقتاني؟ " أي : "إلهي، إلهي ، لماذا تركتني؟"( متى الإصحاح (27) رقم (46-47) ، ويجيب النصارى على هذه التساؤلات الجوهرية – التي تبين فساد وبطلان معتقدهم – بقولهم : إن الخلق ومنذ أن أكل آدم – عليه السلام - من الشجرة وهم يعيشون تحت وطأة الخطيئة ، فالمولود يولد مخطئاً ويعيش مخطئا بعيدا عن الله عز وجل جراء تلك الخطيئة الأولى ، فلما أراد الله أن يغفر لهم أخرج ابنه وأسكنه في بطن مريم العذراء – عليها السلام – يتغذى مما في بطنها، ثم أخرجه مولوداً ، وترعرع كما يترعرع الصبيان ، حتى إذا شبَّ وكبر ، سلمه لأعدائه ليصلبوه ، فيكون ذلك كفارة عن خطيئة آدم – عليه السلام – التي لحقت سائر الناس ، ويذهب النصارى إلى أبعد من ذلك في تفسير حادثة صلب الإله – في نظرهم – إذ يعتقدون أن المسيح - ويسمونه المخلص - لم يخلصهم من خطيئة آدم الأولى فحسب ، بل خلصهم من جميع الخطايا التي ارتكبوها والتي سيرتكبونها ، إذ يكفي – في نظرهم - أن يؤمن النصراني بالمسيح لينال رضا الله ، وليفعل بعد ذلك ما يشاء .

هذه هي فلسفة النصارى فيما يفسرون به قصة صلب إلههم ، ونحن على يقين أن الناقد لن يكون بحاجة إلى معرفة الحقائق الإسلامية عن حياة عيسى عليه السلام لينقض هذا الهراء المتهافت ، ذلك أن ما يزعمه النصارى مناقض للعقول المستقيمة، ولأجل ذلك أصبحت تلك المعتقدات الكنسية عرضة لهجوم تيارات كثيرة كالعلمانية والملاحدة ، ولعل أول ما يرد على النصارى في عقيدة الفداء هو اتهامهم لله عز وجل بالظلم من جهة ، وبالعجز من جهة أخرى ، أما الظلم فلأن الله قد قضى : { أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى }(النجم:38 ) وليس هذا الأمر مقرراً في القرآن وحده بل هو منصوص عليه في التوراة أيضاً فقد جاء في "سفر التثنية":- " لا يُقتل الآباء عن الأولاد، ولا يُقتل الأولاد عن الآباء، كل إنسان بخطيئته يقتل"أهـ ، فهذا نص توراتي صريح يؤيد النص القرآني بألا يتحمل أحد جريرة أحد ، فما بال النصارى يريدون أن يحملوا البشرية جميعاً خطأ آدم عليه السلام، أليس مقتضى العدل أن يتحمل آدم - عليه السلام - وزر خطيئته وحده دون غيره، مع العلم أننا نعتقد كما أخبرنا القرآن أن آدم عليه السلام تاب إلى الله عز وجل فتاب الله عليه وانتهت القضية عند ذلك، وما نرى دعوى النصارى في عقيدة الفداء إلا اختراع اخترعوه ليبرروا قولهم بأن الإله صلب، وهو أمر باطل من أساسه ، وما بني على الباطل فهو باطل .

هذا ما يلزمهم من اتهام الله بالظلم، أما اتهام الله عز وجل بالعجز فيظهر من خلال تلك التمثيلية الطويلة التي اخترعها النصارى من حمل مريم بالإله إلى ولادته إلى صلبه ، كل ذلك ليغفر الله للناس خطيئة آدم التي لحقتهم، وكأن الله عاجز عن غفران خطيئة آدم إلا بتلك الطريقة السمجة التي ذكروها .

إن في دعوى النصارى أن ابن الإله أهين وبصق في وجهه وصلب على خشبة حتى مات مسبة شنيعة ما تجرأ عليها أحد من العالمين ، حتى الوثنيون لم ينسبوا هذا النقص لآلهتهم وهي من الحجارة والطين ، لذلك كان عمر رضي الله عنه يقول : "أهينوهم – أي النصارى - ولا تظلموهم، فلقد سبوا الله عز وجل مسبة ما سبّه إياها أحد من البشر" أ.هـ .

وكان بعض أئمة الإسلام إذا رأى صليباً أغمض عينيه عنه، وقال: "لا أستطيع أن أملأ عيني ممن سب إلهه ومعبوده بأقبح السب ".أهـ.

وقال بعض عقلاء الملوك: " إن جهاد هؤلاء واجب شرعاً وعقلاً فإنهم عار على بني آدم مفسدون للعقول والشرائع" أهـ.

ويعجبني ما قاله قس مصري أسلم : ( إن كان المسيح رباً فلماذا يحتاج كي يغفر للعباد ويُكفّر ذنوبهم أن يُصلب ويُهان ويُصفع ويُبصق في وجهه ..!! )

وأين هذا من قوله تعالى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }(الزمر:53) .

ومن العجب أن يوجد في التوراة التي يؤمن بها النصارى ويسمونها العهد القديم لعن من عُلِّق على خشبة ، ففي سفر التثنية (21/23): "ملعون من تعلق بالصليب"، فهل أصبح المسيح – عليه السلام – ملعوناً، إن جواب النصارى على ذلك ليصيب العاقل بالحيرة والذهول ، إذ يقول بولس في رسالته إلى أهل غلاطية (3/13):" المسيح افتدانا من لعنة الشريعة إذ صار لعنة لأجلنا " أهـ. فانظر إلى عقول هؤلاء كيف يصمون إلههم باللعنة ثم يعبدونه ويقدسونه ، إنها عقول فسدت فجعلت من الإله ملعونا، وفسدت فجعلت الثلاثة واحداً، وفسدت فعظمت الآلة التي قتل عليها إلههم،حيث علق كل واحد على صدره صليباً .

هذه هي عقول النصارى !! وإن المرء ليعجب أشد العجب من دين هذا مبدأه وتلك أصوله يكاد يهدم بعضها بعضاً، ومع ذلك تتبعه هذه الملايين الغفيرة من البشر، فهل فقدت تلك الجماهير عقولها ؟ أم جمدتها، أم إن إيمانهم بهذا الدين لم يكن عن فكر واقتناع وإنما كان لسهولة وجدوها فيه ، إذ يكفي الإيمان بإلوهية المسيح حتى ينال أحدهم رضا الله عز وجل، هذه احتمالات جميعها واردة، وبعضها أسوأ من بعض، ولا يسعنا في هذا المقام إلا أن نحمد المولى عز وجل أن أكرمنا بالإسلام، الدين الحق الذي ارتضاه لعباده، وحفظه من تحريف الغالين، وإبطال المبطلين، ونسأله سبحانه أن يحيينا عليه، وأن يميتنا عليه، وأن يبعثنا عليه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين .

إنجيل واحد أم أناجيل ( 1 )


يقول البر فسور هاير - أستاذ كرسي "الكتاب المقدس" في جامعة كامبن اللاهوتية في هولندا - في حوار مع صحيفة "ليدش داخبلاد" : " إن الكتاب المقدس (أي الإنجيل) ليس كلاما من الله بل هو من صنع البشر، وأنه لا يحتوي حقائق أبدية بل يشكل ألوانا كثيرة من القصص المتنوعة عن البشر". وقد أثارت تلك التصريحات ضجة إعلامية كبيرة ، مع أن الأمر ليس بحاجة لتلك الضجة الكبرى، فالدكتور وهو أستاذ لاهوت قد أصاب كبد الحقيقة التي لا يجادل حتى الباحثون النصارى في ثبوتها ، ذلك أن من الحقائق الثابتة أن هذه الأناجيل التي بين يدي النصارى – مرقص ومتى ولوقا ويوحنا – ما هي إلا تواريخ كتبها هؤلاء الرجال عن حياة المسيح عليه السلام وأقواله وأفعاله، وهذا أمر لا يخفى على قارئ تلك الكتب . بل إن لوقا يصرح بذلك في بداية إنجيله ، فيقول : " لقد كتب كثيرون في تاريخ الأحداث التي جرت لدينا – المسيحيين الأولين – حسب ما نقل من هؤلاء الذين كانوا شهوداً لهذه الحوادث . ولما كنت قد قمت ببحث هذه الأحداث بحثا دقيقاً وتتبعتها من نشأتها الأولى لذلك رأيت من الخير أن أدونها ... ) إنجيل لوقا فقرات 1-2 الإصحاح الأول .
أين إنجيل عيسى ؟
قبل الخوض في تفاصيل الأناجيل المعتمدة عند المسيحيين اليوم ، لا بد من الإجابة على سؤال جوهري وهو أين اختفى إنجيل عيسى ؟ فالقرآن الكريم يذكر أن الله أنزل على عيسى كتابا هو الإنجيل ، قال تعالى :{ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ }(المائدة:46)، وكذلك ورد ذكر إنجيل عيسى عليه السلام في إنجيل مرقص الإصحاح الأول الفقرة 14-15 : " وبعدما ألقي القبض على يوحنا ، انطلق يسوع إلى منطقة الجليل ، يبشر بإنجيل الله قائلاً : قد اكتمل الزمان، واقترب ملكوت الـله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل ". وفي إنجيل متى في الإصحاح الرابع منه ما نصه : " وكان يسوع يطوف كل الجليل يعلم في مجامعهم، ويكرز ببشارة الملكوت "، أي يدعو إلى الإنجيل ، وما من شك أنه ليس أيٍّ من الأناجيل الأربعة هو الإنجيل الذي أنزل على عيسى عليه السلام لأنها لم تكتب إلا بعد موته .

فأين ذهب الإنجيل؟ ولماذا بقيت هذه الأناجيل ( متى ومرقص ولوقا ويوحنا )؟ وللإجابة على هذا السؤال لابد من معرفة دور المجامع النصرانية في إقرار ما تشاء من عقائد ، وإبطال ما تشاء ، ومصادرة بل وإبادة ما يعارض تلك العقائد من رسائل وأناجيل ، وهذا ما يفسر اختفاء ليس إنجيل عيسى وحده بل اختفاء غيره من الأناجيل الأخرى التي كتبها أتباعه ومريدوه ، وذلك أن النصارى – كما سبق في مقالنا نشأة النصرانية وتطورها – جاءوا بما لديهم من تلك الكتب وقدموها إلى مجمع نيقية – سنة 325م – الذي قام بدوره باختيار هذه الأناجيل الأربعة ، وأمر بإبادة وإحراق ما سواها، ومن الأناجيل التي كانت معروفة آنذاك إضافة إلى إنجيل عيسى عليه السلام إنجيل التذكرة ، وإنجيل يعقوب ، وإنجيل توما ، وإنجيل بطرس ، وإنجيل فيلبس ، وإنجيل برنابا، وغيرها من الأناجيل الكثيرة ، التي حكمت عليها الكنيسة بالإعدام ، فلم يعلم أين هي ؟ ولا ما فعل بها ؟

وبعد هذه المقدمة المهمة، التي حاولنا فيها الإجابة على سؤال حول سبب اختفاء إنجيل عيسى عليه السلام وغيره من الأناجيل، نعرض الآن تعريفا موجزا بالأناجيل المعتمدة عند النصارى فنترجم لأصحابها ، ونذكر أهم ما وُجِّه إلى تلك الأناجيل من نقد، ولا سيما فيما يتعلق بجانب الرواية ، أما مضمون تلك الأناجيل فنرجئ الحديث عنه إلى مقال لاحق .

1- إنجيل متى
هذا الإنجيل كتبه – فيما زعموا - أحد حواريي عيسى عليه السلام ، واسمه "متى اللاواني" وقيل إن اسمه "لاوي" انظر مرقص (2/14) ولوقا (5/27) وقد كان يعمل عشَّارا – جامعا للضرائب – وهي مهنة محتقرة عند اليهود . وقد تفرغ للدعوة إلى المسيحية بعد رفع المسيح عليه السلام . وألف إنجيله سنة 60م وقتل سنة 62م في الحبشة بعد أن أمضى 23 سنة داعيا فيها إلى النصرانية .
ومما يطعن به الباحثون في هذا الإنجيل ضياع نسخته الأصلية وعدم معرفة النسخة الأولى المترجمة عنه ، فقد كتب متى إنجيله بالآرامية ، ولكن النسخة الآرامية لا وجود لها ، ولا يعرف بالضبط تاريخ تأليفها ، فضلا على أن النسخة المنقولة عنها غير معروفة ، وغير معروف أصلا إن كانت الترجمة الأولى إلى اليونانية أم إلى غيرها ، فضلا عن جهل النصارى بمترجمها ومدى دينه وأمانته ليحافظ على النص الأول بعيدا عن التحريف والتغيير ، إضافة إلى عدم معرفتهم بمدى تمكنه من اللغتين المترجم عنها والمترجم إليها ، حتى لا يقع في أخطاء يجهلها ، كل هذه الطعون تشكل عقبة كأداء في التصديق والتسليم التام بهذا الإنجيل ، ولعمر الله إن كتابا يكتنفه هذا الغموض كيف يجدر بأهل دين أن يجعلوه عمدة في دينهم إليه يَرِدُون ، وعنه يصدِرون ؟!! .

2- إنجيل مرقص
وكاتبه مرقص الهاروني ، وهو يهودي الأصل آمن بعيسى عليه السلام ، ولم يلقه ، ولكنه صحب حواريه بطرس ، لذلك يرى الباحث "وليم باركلي" أستاذ العهد الجديد بجامعة جلاسجو : " أن إنجيل مرقص ما هو إلا خلاصة مشاهدات بطرس ، وخلاصة مواعظه ، فقد كان مرقص قريبا من بطرس حتى كان هذا يصفه بابنه " . وقد قتل مرقص في مصر سنة 67م . وذهب بعض المؤرخين النصارى إلى أن بطرس هو من كتب هذا الإنجيل ونسبه إلى تلميذه مرقص، وفي ذلك يقول المؤرخ النصراني ابن البطريق : " وفي عهد نارون قيصر كتب بطرس رئيس الحواريين إنجيل مرقص في مدينة رومية ونسبه إلى مرقص " .
أما زمن كتابته فقد جاء في مقدمة إنجيل مرقص في الطبعة الكاثوليكية للعهد الجديد (منشورات دار المشرق – بيروت) ص 153 ( إن الكتاب ألف في رومة بعد اضطهاد نيرون السنة 64م )أهـ، وفي الموضع نفسه قولهم:( فما من شيء يحول دون القول أن الإنجيل الثاني ألف بين السنة (65-70) أهـ.

ولعل أول ما يلاحظه القارئ على هذا الإنجيل – كسابقه - بُعْدُ الفترة الزمنية بين رفع المسيح عليه السلام وكتابة الإنجيل، وهو أمر له تأثير كبير على ضبط المنقول عن عيسى عليه السلام ، سواء من الوقائع والأحداث أو من أقوال عيسى عليه السلام وأفعاله، وهذا ما يفسر الاختلاف الشديد بين الأناجيل في نقل بعض الوقائع والأقوال، وبالتالي فالنتيجة المنطقية لذلك أن تلك الكتب ليس لها عصمة من الوقوع في أخطاء البشر لأنها ليست كتبا سماوية، وإن ادعى النصارى أن روح القدس أوحى بها إلى كتبتها إلا أن دعواهم تلك عارية عن الدليل، إذ لو كانت موحى بها لما وجد فيها تلك الاختلافات، وهذا المعنى سنزيده إيضاحا بعد الانتهاء من الكلام على إنجيلي لوقا ويوحنا ، نسأل المولى عز وجل أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .

إنجيل واحد أم أناجيل ( 2 )


كنا قد تكلمنا في مقالنا السابق عن إنجيلي متى ومرقص في محاولة للتعريف بهما، وإيضاح أن تلك الأناجيل لا تمثل الإنجيل الذي أوحى الله به إلى عيسى عليه السلام ، وأنها ما هي إلا مشاهدات رآها أصحاب تلك الأناجيل أو سمعوها ممن رآها ، وسجلوها في تلك الكتب التي ألفوها بأنفسهم ، ونكمل الكلام فيما تبقى من تلك الأناجيل التي اعتمدتها الكنيسة، وأبطلت العمل بما سواها من أناجيل .
1- إنجيل لوقا : كان لوقا من تلامذة بولس، ولم يكن أبدا من تلامذة المسيح عليه السلام وحوارييه ، وكان من المدافعين والمنافحين عن أستاذه ومعلمه ، وكان بولس يحبه ويسميه الطبيب الحبيب ، غير أن المؤرخين مختلفون في شخصيته ، فبعضهم يقول هو طبيب أنطاكي، وبعضهم يقول هو مصوّر إيطالي، وقد كتب إنجيله باليونانية، واختلف في سنة تأليفه فقيل سنة53 وقيل 63 وقيل 64 ، وتوفي لوقا سنة 70م .
وقد أتى لوقا في إنجيله هذا بزيادات كثيرة، زيادة عما ذكره متى ومرقص بشكل واضح يرتاب له القارئ ، وهذا أمر ليس بمستغرب طالما أن كاتب هذا الإنجيل هو من تلامذة بولس ومحبيه، وقد علم دارسوا المسيحية مدى التغيير الذي أدخله بولس على النصرانية، فلا غرو أن يضمَّن تلميذه آراء أستاذه أو بعضها كتابا يفترض أنه كتاب وحي، ليكون له سلطان في نشر مذاهبه وآرائه، بعد أن جوبهت أراؤه مجابهة شديدة من الموحدين من أتباع عيسى وحوارييه .
2- إنجيل يوحنا: النسبة الشائعة عند الكنيسة أن هذا الإنجيل من تأليف يوحنا بن زبدي الصياد تلميذ المسيح عليه السلام ، وليس ثمة دليل تستند إليه الكنيسة في هذه النسبة سوى أن مؤلف الكتاب ادعى أنه يوحنا الحواري الذي يحبه المسيح ، وهو ما دفع الكنيسة إلى غض الطرف عن مخالفته لغيره من الأناجيل، ولا سيما تصريحه بألوهية المسيح عليه السلام . والطابع الفلسفي الذي امتاز به الكتاب يجعله أبعد ما يكون عن كتابة الصياد يوحنا الحواري، الذي كان بعيدا عن الفلسفة كل البعد، وهذا ما دفع بعض الباحثين إلى القول : " إن كافة إنجيل يوحنا تصنيف طالب من طلبة مدرسة الإسكندرية " وهي المدرسة التي فاحت منها روح الفلسفة آنذاك .
ومن المناسب هنا أن نذكر تعريف دائرة المعارف البريطانية بإنجيل يوحنا – وهي الدائرة التي اشترك في تأليفها خمسمائة عالم من علماء النصارى – حيث جاء فيها : " أما إنجيل يوحنا فإنه لا مرية ولا شك كتاب مزور، أراد صاحبه مضادة اثنين من الحواريين وهما القديسان "يوحنا ومتى" وقد ادعى هذا الكاتب المزوّر في متن الكتاب أنه الحواري الذي يحبه المسيح فأخذت الكنيسة هذه الجملة على علاتها وجزمت بأن الكاتب هو يوحنا الحواري، ووضعت اسمه على الكتاب نصاً، مع أن صاحبه غير يوحنا يقيناً ولا يخرج هذا الكتاب عن كونه مثل بعض كتب التوراة التي لا رابطة بينها وبين من نسبت إليه ، وإنا لنرأف ونشفق على الذين يبذلون منتهى جهدهم ليربطوا ولو بأوهى رابطة ذلك الرجل الفلسفي الذي ألف هذا الكتاب في الجيل الثاني بالحواري يوحنا الصياد الجليل ، فإن أعمالهم تضيع عليهم سدى لخبطهم على غير هدى " أ.هـ .
وهذا ما قرره أيضا مؤلفو دائرة المعارف الفرنسية ( لاروس القرن العشرين ) فقد قالوا أنه : " ينسب ليوحنا هذا الإنجيل وأربعة أسفار أخرى من العهد الجديد ، ولكن البحوث الحديثة في مسائل الإيمان لا تسلم بصحة هذه النسبة " .
والمتمعن في ذلك النقد اللاذع من هذا الكم الهائل من الباحثين يجد أنه ليس بوسع الكنيسة الإصرار بعد ذلك على نسبة هذا الإنجيل ليوحنا بن زبدي الحواري، ما لم تقدم تفسيرا منطقيا لأمرين أساسيين :
الأول : التباين الشديد بين لغة الكتاب الفلسفية وبين ثقافة وفكر يوحنا الحواري التي تعتبر أبعد ما يكون عن ثقافة الفلاسفة ، ذلك أن لغة الكتاب تمثل خلفية الكاتب ومستواه الثقافي والعلمي ، فلو قدَّرنا أن رجلا نسب كتاب جدل ما، مكتوب على طريقة المتكلمين لعمر بن الخطاب رضي الله عنه لنادى عليه من بأقطارها بالجهل وعدم المعرفة .
الثاني: غياب الإسناد فضلا عن افتقاد التواتر في نسبة هذا الكتاب إلى يوحنا الحواري ، وإنَّ المرء ليأخذه العجب من كتاب هذا حاله كيف يكون مرجعا دينيا تؤخذ أحكامه وأقواله، مسلمة على أنها أحكام الله وأقواله .
وللأسف فمع وجود هذه الأسئلة التي لم تجب عليها الكنيسة، إلا أنها ظلت متمسكة بهذا الإنجيل داعية إليه ، وكأنها في صمم عما قيل ، ولكن ليس هذا بمستغرب عند من عرف تاريخ النصرانية ، وكيفية تعاملها مع قضاياها الأشد حساسية ، إذ تتعامل معها بمنطق التقليد الأعمى لأساقفتها وباباواتها، ولو كانت مما قضت العقول ببطلانها وفسادها .
وما يهمنا في نهاية هذا الموضوع أن يتبين للقارئ الكريم قيمة هذه الأناجيل وحقيقتها، وأنها ما هي إلا كتب تاريخية، كتبها أصحابها لحكاية أحوال المسيح عليه السلام، فهي بالتالي عمل بشري ليس له طابع العصمة، لصدوره عمن لا يملكها.
وبالتالي فلا يجوز القول : إن ما في هذه الأناجيل هو كل ما جاء به عيسى عليه السلام، لاحتمال نسيان الرواة بعض أقواله وأفعاله ، ولا يمكن القول أيضا : إن كل ما في هذه الأناجيل قد قاله عيسى عليه السلام حرفا بحرف وعلى وجه الدقة، وذلك لانبناء هذا الأمر على ذاكرة بشر، من الجائز عليها الغفلة والنسيان . ولعل في بعد المسافة الزمنية الفاصلة بين صدور تلك الأفعال والأقوال عن عيسى عليه السلام وبين زمان تسجيلها ما يعد مبررا كافيا للقول باحتمالية الخطأ، كيف لا وقد ثبت بينها الاختلاف والتباين { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً }(النساء:82).
فضلا عما يمكن أن تلعبه قناعات رجل مثل لوقا في استجازة إدخال أفكاره ومعتقداته – ولو عن حسن نية – فيما لم يقله المسيح أو يقرره .
وعلاوة على ذلك فلا ننسى تغير الألفاظ وما يستتبع ذلك من تغير المعاني عن طريق الترجمة من لغة إلى لغة ، وهذه أمور ينبغي أن يتأملها النصارى ، وأن ينظروا فيها بعقولهم ، وألا يأخذوا ما تقوله الكنائس وكأنه وحي منزل من رب السماء ، فإن قليلا من التفكير فيما ذكرنا وفيما لم نذكر ربما قاد إلى التفكير الصحيح، وبالتالي إلى الحقائق الصحيحة التي يجهلها النصارى عن دينهم ، نسأل المولى عز وجل أن يهدي ضال عباده ، إنه ولي ذلك والقادر عليه والحمد لله رب العالمين .

الإله عند النصارى واحد أم ثلاثة ( 1 )


أشاد القرآن الكريم بالعقل وجعله مناط التكليف، وأصبح من القواعد الثابتة في شرعنا أن من لا عقل له، لا تكليف عليه.
وأمر الله الناس أن يعملوا عقولهم، فأمر بالنظر والتفكر والتدبر في آياته، حتى يخلص الإنسان من خلال ذلك إلى الحق الذي بعث الله به أنبياءه ورسله، قال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ }(سـبأ:46) ، وعير سبحانه الكفار بتركهم تعقل وتفهم وحيه، فشبههم بالبهائم، فقال سبحانه:{ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إلا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ }(البقرة:171) ، وقال أيضاً:{ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ }( الأنفال:22)، والآيات في هذا الباب كثيرة . ومن قرأ القرآن بتدبر وتفهم علم قيمة العقل ومنزلته في دين الله عز وجل .
فأين هذا من النقيض الذي يدعوا إليه النصارى من إهمال العقل أو على الأقل تهميشه وتحييده،لاسيما في العقائد المبتدعة الدخيلة على دين الله الذي بُعث به عيسى عليه السلام .
وحتى لا يكون كلامنا افتراء نخطه دون أن نقدم بينة عليه، نذكر شاهدين من كلام النصارى أنفسهم في دعوتهم إهمال العقل عند النظر في عقائدهم وأفكارهم ، يقول القديس أنسليم : " يجب أن تعتقد أولا ما يعرض على قلبك بدون نظر ، ثم اجتهد بعد ذلك في فهم ما اعتقدت " أ.هـ عن كتاب مقارنة الأديان لشلبي ( ج2/223 ) ويقول القس وهيب الله عطا : " إن التجسيد قضية فيها تناقض مع العقل والمنطق والحس والمادة والمصطلحات الفلسفية ، لكننا نصدق ونؤمن أن هذا ممكن حتى ولو لم يكن معقولاً " ( نفس المصدر 2/124 ) .
فاعجب لهؤلاء كيف يريدون من الناس أن يهملوا عقولهم التي ميزهم الله بها على سائر الحيوانات، لتسلم لهم خرافاتهم - وما أدخلوه في دين الله عز وجل - من أن تنالها معاول النقد، وهذا والله هو ما جرأ العلمانيون والملاحدة على النيل من الدين النصراني الذي دخل – بسبب تحريف أهله له – دهاليز الخرافة والدجل .
ولعل من أوضح ما يمكن الاستشهاد به على ضلال عقائدهم، ومصادمتها لقضايا عقلية صحيحة متفق عليها عند جميع العقلاء، ما اخترعوه من الشرك بالله عز وجل حيث نسبوا له ابناً وادعوا أنه إله مع الله سبحانه وتعالى،ثم أضافوا إلى قائمة آلهتهم روح القدس فأصبح لدى النصارى ثلاثة آلهة هي : الآب " الله " والابن " عيسى " وروح القدس ، وهذا هو الثالوث الذي يعتقدون ألوهيته ، ويسمونه توحيداً .
وبهذا التثليث أبطل النصارى التوحيد الذي جاء به المرسلون ومنهم عيسى عليه السلام وحولوه إلى شرك ، ومن العجب أن يدعوا بعد هذا أنهم ما زالوا على التوحيد ، وأن الثلاثة واحد والواحد ثلاثة ، في معادلة يستحيل على كل ذي عقل فهمها فضلا عن التسليم بها ، فقد غلطوا – كما يقول ابن تيمية - في أول مسألة من الحساب الذي يعلمه كل أحد!! وهو قولهم الواحد ثلاثة .‍‍‍‍‍
ولنترك لأحد علمائهم مهمة إفهامنا هذا الشرك الذي يسمونه توحيدا أو تثليثاً ، يقول الأب بولس الياس اليسوعي في كتاب " يسوع المسيح" : " من الناس من يقولون : لم يا ترى إله واحد في ثلاثة أقانيم ؟ أليس في تعدد الأقانيم انتقاص لقدر الله ؟ أليس من الأفضل أن يقال : الله أحد فحسب ؟ لكننا إذا اطلعنا على كنه الله لا يسعنا إلا القول بالتثليث ، وكنه الله محبة ( يوحنا : 4 : 16 ) ولا يمكن إلا أن يكون محبة، ليكون الله سعيداً ، فالمحبة هي مصدر سعادة الله، ومن طبع المحبة أن تفيض وتنتشر على شخص آخر فيضان الماء وانتشار النور، فهي إذن تفترض شخصين على الأقل يتحابان ، وتفترض مع ذلك وحدة تامة بينهما . وليكون الله سعيدا – ولا معنى لإله غير سعيد وإلا لانتفت عنه الألوهية – كان عليه أن يهب ذاته شخصا آخر يجد فيه سعادته ومنتهى رغباته ، ويكون بالتالي صورة ناطقة له ، ولذا ولد الله الابن منذ الأزل نتيجة لحبه إياه، ووهبه ذاته، ووجد فيه سعادته ومنتهى رغباته، وبادل الابن الأب هذه المحبة ووجد فيه هو أيضا سعادته ومنتهى رغباته . وثمرة هذه المحبة المتبادلة بين الأب والابن كانت الروح القدس . هو الحب إذاً يجعل الله ثالوثاً وواحدا معاً .
" ولا يصح أن يكون هذا الكائن الذي حبس الله الأب محبته عليه إلا الابن ، ولو كان غير الابن ، ولو كان خليقة محدودة ، بشرا أو ملاكاً لكان الله بحاجة إلى من دونه كمالاً ، وعد ذلك نقصا في الله، والله منزه عن النقص، فتحتم إذا على الله والحالة هذه أن يحبس محبته على ذاته فيجد فيها سعادته ، لهذا يقول بولس الرسول : " إن الابن هو صورة الله الغير منظور وبكر كل خلق " ( كولوس 1: 15 ) .
وليس الله إذا كائناً تاهئاً في الفضاء ، منعزلا في السماء ، لكنه أسرة مؤلفة من أقانيم تسودها المحبة وتفيض منها على الكون براءته ، وهكذا يمكننا أن نقول إن كنه الله يفرض هذا التثليث " انتهى بواسطة مقارنة الأديان لشلبي 2/115-116 .
فهل سمعت أخي القارئ هذيانا كهذا ، وهل فهمت حقيقة الثالوث ، وهل انفك لك لغز : الثلاثة واحد ، والواحد ثلاثة ، قد تقول إن الرجل لم يحسن التعبير ولم يوفق لبيان الحقيقة لكني أقول إن كل من يفسر هذه العقيدة – سواء من متقدميهم أو متأخريهم - يقع فيما وقع فيه الأب الياس من الإيهام والإغراب وربما أعظم وأشد ، والسبب وراء ذلك أنهم تائهون حائرون ليس لهم مرجع من الإنجيل في تفسير عقيدة التثليث فكل واحد يفسرها حسب فهمه وهواه . ومن هنا قيل لو اجتمع عشرة من النصارى على بيان عقيدتهم في المسيح لتفرقوا على أحد عشر قولاً.

ولتوضيح هذه الحقيقة - وهي افتقاد النصارى المرجع في تفسير عقائدهم - نسأل الياس ما مستنده فيما ذهب إليه من أن المحبة تقتضي اتحادا تاما بين المحبوب ومن يحب ؟!! أو ليس البشر يحب بعضهم بعضا دون أن يكون هناك حلول أو اتحاد بين المحبوبين ؟ ثم من أين له أن الله ولد ابنا ووهبه ذاته ؟!! ثم من أين له أيضا أن روح القدس انبثق من المحبة المتبادلة بين الآب والابن ؟ إن نصوص الإنجيل لا تدل على شيء من ذلك . لا تصريحا ولا تلميحاً، ولكنه التحكم والهوى نسأل السلامة والعافية.

ولنعد إلى أصل القضية، فنقول إن لفظ الابن له معنى حقيقي ومعنى آخر مجازي، فالمعنى الحقيقي أنه حيوان ولد من نطفة حيوان هو من نوعه ، هذا هو معناه في اللغة وهذا المعنى محال في حق الخالق سبحانه ، لذلك جاء القرآن باستبعاده وتنزيه الله عنه، قال تعالى : { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ والأرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }(الأنعام:101) .
والمعنى الثاني معنى مجازي يراد به أنه في منزلة الابن النسبي من حيث تعلقه بخالقه ، وحماية الخالق له ، ورحمته به وشفقته عليه ، وهذا المعنى هو المراد بنصوص الإنجيل في نسبة عيسى أنه ابن الله كما سيأتي .
وإذا تبين معنى الابن في اللغة فلا يجوز التلاعب بعد ذلك في الألفاظ ، فالواجب ضبط الألفاظ بمعانيها منعا للخبط وعدم الضبط فإن الألفاظ قوالب المعاني، فلا يجوز أن يقال إن عيسى ابن الله ثم يفسر قائل هذا القول كلامه بأنه أراد أن عيسى هو علم الله أو محبته أو أنه أقنوم غير أقنوم الأب وغير أقنوم روح القدس إلى آخر هذه التحكمات ، لأننا سنقول له إن كلمة ابن لم توضع للدلالة على العلم أو المحبة أو الأقنومية وإنما وضعت للمعنى الذي ذكرنا .

فهذه لمحة موجزة عن تثليث النصارى أحببنا من خلالها إلقاء الضوء بصورة مجملة على أهم عقائدهم، وقد ركزنا فيها على بيان أمرين:
الأول : إظهار اعترافهم بأن عقائدهم مصادمة للعقل.
الثاني: إظهار سبب خلافهم في بيان حقيقة التثليث، وهو أنهم لا ينطلقون في تفسيره من نصوص قاطعة من الأناجيل. وهو ما أدى إلى اتساع هوة الخلاف بينهم،حتى وصل إلى تفرقهم على فرق وطوائف يكفر بعضهم بعضا .

وسنأتي إن شاء الله على بعض الشبه التي تمسكوا بها في إثبات التثليث واستدلوا عليه ببعض نصوص الأناجيل، وسوف نرد على هذه الشبه من واقع الأناجيل نفسها حتى يكون أبلغ في الحجة على النصارى ، سائلين الله عز وجل أن يوفقنا لمعرفة الحق والعمل به ودعوة الناس إليه إنه ولي ذلك والقادر عليه والحمد لله رب العالمين .

الإله عند النصارى واحد أم ثلاثة ( 2)


كنا قد بينا في مقال سابق حقيقة قول النصارى في عقيدة التثليث، وأوضحنا من خلال نقل أقوالهم مدى بعدها بل وتصادمها مع التوحيد الذي بعث الله به رسله، وأنزل فيه كتبه فضلا عن تصادمها مع بدهيات العقول .
ونحاول في هذا المقال أن نستعرض أدلة النصارى التي استدلوا بها من الأناجيل على صحة ما ذهبوا إليه من القول بالتثليث، مع التنبيه على أن نقلنا لأدلتهم من الأناجيل ليس اعترافا منا بصحة كل ما فيها، ولكننا نفعل ذلك لاعتقادنا أن ما فيها من الحق الواضح قادر على بيان وتجلية ما اعتمدوا عليه من شبه .
وقبل الخوض في ذكر أدلتهم نحب أن نبين أن النصارى المتأخرين مجمعون على القول بالتثليت، وإنما اختلفوا في تفسيره وتفاصيله كالخلاف في مساواة الابن بالآب ، وكالخلاف في المسيح هل له طبيعتان أو طبيعة واحدة، وهي خلافات تشكل حدودا فاصلة لفرق النصرانية المعاصرة من كاثوليك وأرثوذكس وغيرهم .
الأسس التي اعتمد عليها النصارى في القول بألوهية المسيح عليه السلام
1- جاء في إنجيل متى ( 3/17 ) منسوبا إلى الله قوله لعيسى: ( هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ، الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ كُلَّ سُرُور »
2- ويروي متى أن رئيس الكهنة قال مرة للمسيح : ( أَسْتَحْلِفُكَ بِاللهِ الْحَيِّ أَنْ تَقُولَ لَنَا: هَلْ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ؟ 64 : فَأَجَابَهُ يَسُوعُ: « أَنْتَ قُلْتَ! وَأَقُولُ لَكُمْ أَيْضاً إِنَّكُمْ مُنْذُ الآنَ سَوْفَ تَرَوْنَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ الْقُدْرَةِ ثُمَّ آتِياً عَلَى سُحُبِ السَّمَاءِ!»
3- وورد في إنجيل متى 28:19( فَاذْهَبُوا إِذَنْ، وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ، وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآبِ وَالاِبْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ ) .
4- وجاء في يوحنا ( 1- 5 ): ( فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ. وَكَانَ الْكَلِمَةُ هُوَ اللهُ . هُوَ كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللهِ . بِهِ تَكَوَّنَ كُلُّ شَيْءٍ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَتَكَوَّنْ أَيُّ شَيْءٍ مِمَّا تَكَوَّنَ. فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ. وَالْحَيَاةُ هَذِهِ كَانَتِ نُورَ النَّاسِ. وَالنُّورُ يُضِيءُ فِي الظَّلاَمِ، وَالظَّلاَمُ لَمْ يُدْرِكْ النُّورَ ) .
5- وفي أعمال الرسل ( 8 : 26-27 ) أن فيليبس أحد الحواريين كان يسير مع خصي فمرا بماء، فطلب الخصي من فيليبس أن يعمده، فقال فيليبس إن كنت تؤمن من كل قلبك عمدتك . فقال الخصي : ( أنا أؤمن بأن يسوع هو ابن الله، فعمده فيليبس ) .
6- وورد في يوحنا : 10 :30 قول عيسى عليه السلام ( أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ ) .
والحقيقة أن الناظر في هذه الأدلة يرى هشاشة ما بنى عليه النصارى دينهم ، فنظرة فاحصة لتحرير معنى " ابن الله " في الإنجيل نفسه تنسف عقيدة النصارى من أساسها ، وتبين بما لا يدع مجالا للشك بطلان هذه العقيدة وفسادها .
فكلمة ابن الله في الأناجيل وردت أكثر من مرة في حق عيسى عليه السلام وفي حق غيره ، فإذا استدلوا بها على ألوهية عيسى، فهلا استدلوا بها على ألوهية من قيلت فيه هذه الكلمة أيضاً ، فقد جاء في إنجيل يوحنا الإصحاح (20 : 17) قول المسيح عليه السلام : " إني سأصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم " فهذا نص من المسيح نفسه على أن الله أب لتلاميذه أيضاً فلماذا فرقوا بين الأمرين ؟ ولماذا استدلوا على ألوهية المسيح بأنه ابن لله ، ولم يقولوا بألوهية تلاميذه أيضاً فقد كانوا أيضا أبناء لله بنص كلام المسيح نفسه.

وقد ورد نص آخر في إنجيل متى فيه إطلاق لفظ أبناء الله على المؤمنين به سبحانه، فقد جاء فيه : " 8 طُوبَى لأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ، فَإِنَّهُمْ سَيَرَوْنَ اللهَ . 9طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ، فَإِنَّهُمْ سَيُدْعَوْنَ أَبْنَاءَ اللهِ. ) وفيه أيضاً : 44 أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، وَبَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ، وَأَحْسِنُوا مُعَامَلَةَ الَّذِينَ يُبْغِضُونَكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَضْطَهِدُونَكُمْ، 45فَتَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ ) ويروي متى عن عيسى قوله : ( إن أباكم واحد الذي في السموات ) ( إصحاح : 32 الفقرة 8 ) فكل هذه النصوص تدل على أن معنى ابن الله معنى آخر غير ما تدعيه النصارى ، وهو أن الله عز وجل يكون لعباده المؤمنين كالأب على أولاده فيرحمهم وينعم عليهم ويحميهم من كل سوء وأذى فهو لهم أب بهذا الاعتبار، وهم له أبناء من حيث اعتمادهم وتوكلهم عليه سبحانه وهذا المعنى لا يختص بعيسى عليه السلام، بل يشمل غيره من الأنبياء وهو الذي تدل عليه نصوص الإنجيل وتلتئم به فقراته .

هذا إذا حاولنا الجمع فقط بين الآيات التي ذكرت فيها هذه اللفظة " ابن الله أو أبناء الله "، فكيف إذا جمعنا إليها الشواهد الأخرى التي تدل على بشرية المسيح عليه السلام، وأنه ما هو إلا رسول من عند الله، جاء لهداية بني إسرائيل، وهو ما يتفق مع خبر القرآن الكريم عنه، فمن تلك الدلائل تصريحه عليه السلام بتفرد الله عز وجل بالألوهية دون من سواه : فقد جاء في إنجيل مرقص قول عيسى عليه السلام : " الرب إلهنا إله واحد . وليس آخر سواه " ( 12 : 30-31 ) وهذا النص موافق لما جاء في التوراة - التي يؤمن بها النصارى - من قول موسى عليه السلام : " اسمعوا يَا بني إِسْرَائِيلُ : الرَّبُّ إِلهنَا رَبٌّ وَاحِدٌ - تثنية 6 :4.
ومن الدلائل أيضا على بشرية المسيح عليه السلام، وأنه رسول من عند الله تصريحه عليه السلام بأنه نبي أرسله الله عز وجل لتجديد شرعه ، فقد جاء في إنجيل لوقا أن الناس مجدوا الله قائلين : " قد خرج فينا نبي عظيم " ( 7 : 16) فلم ينكر عليهم عيسى قولهم عنه إنه نبي، فضلا على أن يبين لهم أنه إله – كما تدعي النصارى - ، كيف وهو يصرح أنه مرسل من عند الله كما جاء في إنجيل لوقا الإصحاح 9 : 48 قوله عليه السلام : " مَنْ قَبِلَ بِاسْمِي هَذَا الْوَلَدَ الصَّغِيرَ، فَقَدْ قَبِلَنِي؛ وَمَنْ قَبِلَنِي، يَقْبَلُ الَّذِي أَرْسَلَنِي ) فهذا تصريح منه عليه السلام بأنه مرسل من عند الله كغيره من الأنبياء والرسل .
ولما قيل له اهرب انج بنفسك : قال : " لا يمكن أن يهلك نبي خارج أورشليم . يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء ، وراجمة المرسلين " ( لوقا :13:23) فهو يصرح عليه السلام بأنه نبي ، كما في هذا النص ، وكما ورد في إنجيل يوحنا الإصحاح 11 : 41 – 43 قول المسيح عليه السلام : -" أيها الآب أشكرك لأنك سمعت لي وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لي…… ليؤمنوا أنك أنت أرسلتني " وكما في إنجيل يوحنا الإصحاح 17 : 24 قول المسيح عليه السلام : - " وليعلم العالم أنك أرسلتني وأحببتهم كما أحببتني " فإذا هو يعلِّم الناس أنه مرسل من عند الله عز وجل .
وهذا هو ما كان شائعا عند الناس في زمنه فقد جاء في إنجيل متى : أنه : ( 10لَمَّا دَخَلَ يَسُوعُ أُورُشَلِيمَ، ضَجَّتِ الْمَدِينَةُ كُلُّهَا، وَتَسَاءَلَ أَهْلُهَا:مَنْ هُوَ هَذَا؟ 11فَأَجَابَتِ الْجُمُوعُ:هَذَا هُوَ يَسُوعُ النَّبِيُّ الَّذِي مِنَ النَّاصِرَةِ بِالْجَلِيلِ . وكذلك قالوا عندما رأوا بعض معجزاته : " إن هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم " يوحنا ( 6 : 14) .
ومن الدلائل على بشرية المسيح عليه السلام تصريحه بأنه إنسان ابن إنسان ،ففي إنجيل يوحنا الإصحاح 8 : 40 قول المسيح عليه السلام : -"وأنا إنسان كلمتكم بالحق الذي سمعته من الله " وفي إنجيل متى : " 18: ولما رأى يسوع جموعا كثيرة حوله أمر بالذهاب الى العبر . 19: فتقدم كاتب وقال له يا معلّم اتبعك أينما تمضي . 20: فقال له يسوع للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار . وأما ابن الانسان فليس له مكان يسند إليه رأسه " وهذا أيضا هو ما كان معروفا لدى الناس في زمنه عليه السلام أنه إنسان ، وكانوا ينسبونه إلى يوسف النجار زوج أمه مريم عليها السلام، ففي إنجيل يوحنا الإصحاح 1 : 45 " يسوع ابن يوسف الذي من الناصرة " وفي إنجيل يوحنا الإصحاح 9 : 11 " إنسان يقال له يسوع " وفي إنجيل متى الإصحاح 13 : 55 " أليس هذا ابن النجار " . ومن دلائل بشريته عليه السلام اتصافه بصفات البشر من التعب والعجز ونحو ذلك ، فقد جاء في إنجيل يوحنا الإصحاح 4 : 6 " كان يسوع قد تعب من السفر " ومن ذلك ما جاء في إنجيل يوحنا 5:30 " أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئا.كما أسمع أدين ودينونتي عادلة لأني لا أطلب مشيئتي بل مشيئة الآب الذي أرسلني "
هذا فيما يتعلق بنقض تمسكهم بما ورد في الإنجيل من تسمية عيسى عليه السلام ابن الله، فقد تبين من خلال هذا الاستقراء لنصوص الإنجيل حقيقة هذه اللفظة، ورأيت – أخي القارئ - بالدلائل الكثيرة حقيقة عيسى عليه السلام، وأنه بشر أرسله الله عز وجل لتبليغ دينه ، وكل ذلك من نصوص الأناجيل نفسها ، بما يتفق مع نصوص القرآن الكريم ، وهذا يقودنا إلى أمر غاية في الأهمية وهو أن النصارى لا يأخذون دينهم من الأناجيل – على ما فيها – ، وإنما العمدة عندهم ما تقرره مجامعهم ورجال الكنيسة فيهم ، فقد ظل الإنجيل أزمانا مديدة حكرا لا يقرأه إلا رجال الكنيسة وكهنتها، وهم وحدهم لهم الحق في تفسيره وتأويله وحمله على ما تشتهيه أنفسهم، دون أن يكون لهم في ذلك منهجا للفهم له قواعده وضوابطه حتى لا يكون عرضة للتحكمات والأهواء ، وبذلك أصبح النصارى أبعد ما يكون عن حقائق الأناجيل ، وأصبحوا أسرى لما تتفتق عنه أذهان قساوستهم من بدع ومحدثات .
وبذلك خرجت النصرانية عن هداية الوحي الإلهي إلى ما يقرره القساوسة من رغباتهم وأهواءهم ، فأضحت دينا بشريا بعد أن كان دينيا سماوياً .

هذا فيما يتعلق برد شبهتهم فيما يتعلق ببنوة المسيح عليه السلام، وسوف نرد على بقية شبهاتهم في مقال لاحق ، نسأل المولى عز وجل أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .



الثلاثاء، 23 سبتمبر 2008

الأناجيل ليست كلام الله ( 1 )


تحدثنا في مقال سابق بشكل مجمل عن الأناجيل "متى ومرقص ولوقا ويوحنا "، وترجمنا لمؤلفيها، وبيَّنا ما وُجِّه إليها من طعون، خاصة فيما يتعلق بطرق ثبوتها وضياع نسخها الأصلية، ونحاول في مقالنا هذا أن نلقي الضوء على التناقض والاضطراب في بعض نصوص تلك الأناجيل، وذلك بالمقارنة بين نصوصها، معتمدين القاعدة الربانية { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً }(النساء:82) ذلك أن وجود الاختلاف في كتاب - يقال إنه كتاب وحي - دليل قاطع على أنه من عند غير الله ، وأن يد التحريف قد عبثت به، وإثباتنا لتناقض هذه النصوص هو أعظم رد على النصارى الذين يزعمون أن هذه الأناجيل هي كلمة الله.
وسوف نستعرض بعض الأمثلة التي تبين للقارئ المنصف بما لا يدع مجالا للشك هذه الحقيقة " حقيقة تحريف الأناجيل "، لكن قبل إيراد هذه الأمثلة لابد من توضيح معنى "التحريف" عند المسلمين حتى يكون العاصم عند الخلاف في إيراد مثال أو الإضراب عنه .
معنى التحريف
التحريف هو التغيير الواقع في كلام الله سواء وقع بسبب الزيادة أو النقصان أو تبديل بعض الألفاظ ببعض آخر أياً كان سبب ذلك التغيير إن كان عن سوء قصد، أم عن حسن قصد، أم عن سهو وغفلة ، ونحن ندعي أن التحريف بهذا المعنى واقع في الأناجيل التي بين أيدي النصارى اليوم ، ونثبت دعوانا بهذه الأمثلة :

أولاً :اختلافهم في نسب المسيح وعدد آباءه
من ذلك الخلاف في نسب عيسى عليه السلام، فقد ورد نسبه في إنجيل متى مخالفا لما ورد في إنجيل لوقا. فإنجيل متى نسب المسيح إلى يوسف بن يعقوب وجعله في النهاية من نسل سليمان بن داود. أما إنجيل لوقا فنسبه إلى يوسف بن هالي، وجعله في النهاية من نسل ناثان بن داود عليه السلام . وهذا مع تناقضه مخالف لما في إنجيل متى 1:23 ( و ذا العذراء تحبل وتلد ابنا ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا ) فعيسى عليه السلام ليس له أب ، فنسبته إلى يوسف النجار مخالف لهذه الفقرة من أنه يولد من عذراء غير ذات زوج .
ثانيا : اختلافهم في عدد آباء عيسى عليه السلام
ومن ذلك الخلاف في عدد آباء عيسى إلى داود عليه السلام فذكر إنجيل متى أنهم سبعة وعشرون أبا ، في حين أن إنجيل لوقا جعلهم اثنين وأربعين أبا، فبأي القولين نأخذ وأي الروايتين نصدق، علما أن الفارق كبير لا يمكن ترقيعه ، فليس أمامنا هنا إلا أن نؤكد بشرية هذا العمل " الأناجيل " .

ثالثا : اختلافهم في تعيين حواريي عيسى عليه السلام
ومن ذلك أيضا : اختلاف إنجيل متى وإنجيل لوقا في تعيين الحواريين أصحاب عيسى ، فإنجيل متى ذكر منهم لباوس الملقب تداوس ، بينما لا نجد لهذا ذكراً في إنجيل لوقا، ونجد بدلاً عنه يهوذا أخا يعقوب. فهل يمكن أن يكون كتاب موحى به من الله تختلف فيه أسماء الحواريين .. على قلة عددهم !!

رابعا: اختلافهم في أمر عيسى عليه السلام بما يسمى العشاء الرباني
من ذلك ما جاء في إنجيل متى 26:26 أن المسيح عليه السلام حين تعشى مع تلاميذه كسر لهم الخبز وقال لهم : " خُذُوا، كُلُوا: هَذَا هُوَ جَسَدِي!" وكذلك في إنجيل مرقص 14:22 قال لهم: " خُذُوا: هَذَا هُوَ جَسَدِي " أما في إنجيل لوقا 22:19 فقال : " هذا هو جسدي الذي يبذل عنكم.اصنعوا هذا لذكري!" ولا شك أن المتأمل في هذه الجمل يستوقفه اختلاف المعاني بينها، ولاسيما ما جاء في إنجيل لوقا ، ففيه إشارة صريحة إلى ما يسمى بالعشاء الرباني في حين أن ما جاء في إنجيلي متى ومرقص لم يشتمل على شيء من هذا القبيل ، علما أن العشاء الرباني من الشعائر الهامة عند النصارى ، فهل لنا أن نسأل أمام هذا الاختلاف بين هذه الأناجيل، فنقول : هل أمر المسيح عليه السلام بما يسمى العشاء الرباني أم لم يأمر ؟ فإن قيل : أمر فمعنى هذا أن متى ومرقص قد أخفيا أو أسقطا أمره ، وإن قيل لم يأمر فمعنى هذا أن لوقا قد زاد في إنجيله، وكلا الخيارين يؤيد دعوى تحريف الأناجيل .

خامساً : اتهام من شهد على عيسى بالزور في قول قاله
ومن ذلك أيضا ما جاء في إنجيل مرقص 14:57 في قصة محاكمة عيسى أمام شيوخ اليهود الذين اتهموه بالزندقة ، حيث طلبوا من يشهد عليه فقد جاء فيه : " ثم قام قوم وشهدوا عليه زورا " ففي هذه الرواية وصف لشهادتهم بأنها شهادة زور في حين أن مضمون هذه الشهادة ثابت عن عيسى عليه السلام، ففي سفر يوحنا 2:19 " أجاب يسوع وقال لهم : انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه، فقال اليهود : في ست وأربعين سنة بني هذا الهيكل أفأنت في ثلاثة أيام تقيمه " فإذا صح أن عيسى عليه السلام قال هذا الكلام فبأي حق يصف مرقص شهادة الرجلين بأنها شهادة زور ، فنحن بين خيارين إما أن نكذب يوحنا أو نكذب مرقصا، والتأويل الذي ذكره يوحنا في ذلك لا يدل عليه اللفظ ولا يساعده السياق .

سادسا : اختلافهم فيما وقع عند موت عيسى حسب زعمهم
ومن ذلك ما جاء في إنجيل متى 51-53 : 27 أن عيسى عليه السلام عندما أسلم الروح -زعموا- أن " الأرض تزلزلت والصخور تشققت ، والقبور تفتحت وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين ، وخرجوا من القبور بعد قيامته ودخلوا المدينة المقدسة وظهروا لكثيرين." ومثل هذا الحدث مما تتوافر الهمم على نقله والحديث عنه ومع ذلك لم يرد له ذكر في بقية الأناجيل ، فهل تقوّل متى وزاد في تلك الأحداث ما لم يحدث، أم أن مرقصا ولوقا ويوحنا حذفوا بعض ما حدث وبالتالي تثبت دعوانا بوجود التحريف في الأناجيل زيادة ونقصاً .
كل هذه الأمثلة - وما سنذكره لاحقا في مقالنا التالي - تدل دلالة قطعية على أن هذه الأناجيل ليست وحيا من الله سبحانه، إذ لو كانت وحيا لخلت من التناقض والتضارب ومن الزيادة والنقصان، وهي حقيقة لا يمكن للنصارى دفعها إلا بتحمل الأعذار الساقطة والباطلة ، وسيبقى الحق واضحا جليا لمن طلبه ، نسأل المولى عز وجل أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .

الاثنين، 22 سبتمبر 2008

الأناجيل ليست كلام الله ( 2 )

استكمالا لما ابتدأناه من إثبات القول بوقوع التحريف في أناجيل النصارى ، نورد بعض الأمثلة الأخرى التي تدل على صحة دعوى المسلمين بأن تلك الأناجيل محرفة وأنها لا يمكن أن تكون كلمة الله، لما اشتملت عليه من التناقض والاضطراب الذي ينزه عنهما كلام الله سبحانه الذي { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ}(فصلت:42) فمن تلك الأمثلة :
تخلف نبوءات الأناجيل عن الوقوع
وهذا من أقبح التحريف، إذ إن أخبار الأنبياء حق ووعودهم صدق لا يمكن أن تتخلف، فإذا وجد في الكتاب خبر قد عين وقته أو علامته ولم يتحقق بعد مضي ذلك الوقت أو مجيء تلك العلامة، فهذا يدل على أن ذلك النبي لم يكن نبيا، أو أن الخبر إليه لم يكن صحيحا، لما تقرر من ثبوت العصمة لأنبياء الله في تبليغ وحيه .
ومع ذلك نجد في أناجيل النصارى بشارات أو نبوءات منسوبة إلى المسيح عليه السلام، لكنها لم تقع رغم وقوع علامتها ومرور الوقت المحدد لها ، فمن ذلك ما جاء في إنجيل متى 27-28/16من قول المسيح عليه السلام : " فَإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ سَوْفَ يَعُودُ فِي مَجْدِ أَبِيهِ مَعَ مَلاَئِكَتِهِ، فَيُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ أَعْمَالِهِ. الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ بَعْضاً مِنَ الْوَاقِفِينَ هُنَا لَنْ يَذُوقُوا الْمَوْتَ، قَبْلَ أَنْ يَرَوْا ابْنَ الإِنْسَانِ آتِياً فِي مَلَكُوتِهِ " فقد دلت هذه النبوءة على أن نزول عيسى عليه السلام من السماء سيكون قبل أن يفنى الجيل الذي يخاطبه، بل قبل أن يموت بعض الواقفين بجانبه، وقد مات ذلكم الجيل كله ومئات من الأجيال بعده، ولم ينزل المسيح عليه السلام ولم تتحقق نبوءته ، ويقيننا بأن عيسى نبي يدفعنا إلى اتهام النقلة عنه في عدم الدقة، بل والزيادة في كلامه والنقصان منه حسب الأهواء والرغبات .
ومن هذا القبيل أيضا ما جاء في إنجيل لوقا من قول الملائكة لمريم عليها السلام : 30-33 / 1: ( لاَ تَخَافِي يَا مَرْيَمُ، فَإِنَّكِ قَدْ نِلْتِ نِعْمَةً عِنْدَ اللهِ! وَها أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْناً، وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. إِنَّهُ يَكُونُ عَظِيماً، وَابْنَ الْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيَمْنَحُهُ الرَّبُ الإِلهُ عَرْشَ دَاوُدَ أَبِيهِ، فَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى الأَبَدِ، وَلَنْ يَكُونَ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ ). ومعلوم أن داود عليه السلام تولى حكم بني إسرائيل وكانت مملكته ممتدة على رقعة جغرافية واسعة في حين أن عيسى عليه السلام لم يستطع أن يتخلص من دفع الجزية لقيصر، بل إنه عليه السلام يصرح كما في إنجيل يوحنا 18/36 : " بأن مملكته ليست من هذا العالم " فكيف يصح بعد هذا ما جاء في إنجيل لوقا من أنه يعطى ملك داود وأن ملكه يبقى إلى الأبد !!!

تناقض واضطراب في كلام الأناجيل
من ذلك ما جاء في إنجيل متى 38-40 / 12 : " عِنْدَئِذٍ أَجَابَهُ بَعْضُ الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ، قَائِلِينَ: " يَا مُعَلِّمُ، نَرْغَبُ فِي أَنْ نُشَاهِدَ آية تُجْرِيهَا! فَأَجَابَهُمْ: جِيلٌ شِرِّيرٌ خَائِنٌ يَطْلُبُ آيَةً؛ وَلَنْ يُعْطَى آيَةً إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ النَّبِي ِّ ( يونس عليه السلام ) فَكَمَا بَقِيَ يُونَانُ فِي جَوْفِ الْحُوتِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ، هَكَذَا سَيَبْقَى ابْنُ الإِنْسَانِ فِي جَوْفِ الأَرْضِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ ) ففي هذا النص يمتنع المسيح عليه السلام عن إعطاء علماء اليهود آية في حياته، ولكنه في نص آخر يعرض عليهم آية ومعجزة وهي بناء هيكلهم في ثلاثة أيام بعد أن يهدموه هم، فقد جاء في إنجيل يوحنا 18-20/ 2 : " فَتَصَدَّى الْيَهُودُ لِيَسُوعَ وَقَالُوا لَهُ: «هَاتِ آيَةً تُثْبِتُ سُلْطَتَكَ لِفِعْلِ مَا فَعَلْتَ!» أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: «اهْدِمُوا هَذَا الْهَيْكَلَ، وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ». فَقَالَ لَهُ الْيَهُودُ: «اقْتَضَى بِنَاءُ هَذَا الْهَيْكَلِ سِتَّةً وَأَرْبَعِينَ عَاماً، فَهَلْ تُقِيمُهُ أَنْتَ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ؟ " ، فبأي الفقرتين نأخذ وإلى أي القولين نصير !!

الاختلاف في حامل الصليب
ومن أوجه التناقض والاختلاف ما جاء في إنجيلي متى 27/32 ولوقا 23/26 من أن حامل الصليب هو سمعان القيرواني، في حين جاء في إنجيل يوحنا 19/17 أن المسيح عليه السلام هو من كان يحمل الصليب!! وهنا نسأل نفس السؤال من كان الحامل الحقيقي للصليب المسيح أم سمعان القيرواني ؟ !!

الاختلاف في وصية المسيح لتلاميذه
جاء في إنجيل متى 9-10/10 أن المسيح عليه السلام قال لتلاميذه : " لا تقتنوا ذهبا ولا فضة ولا نحاسا في مناطقكم ولا مزودا للطريق ولا ثوبين ولا أحذية ولا عصاً " في حين أن في إنجيل مرقص 8-9/6 : " وأوصاهم ألا يحملوا شيئا في الطريق غير عصا فقط " فهل لنا أن نسأل هنا هل أوصاهم بترك كل شيء حتى العصا أم أوصاهم بترك كل شيء بما في ذلك العصا!! فأي الوصيتين أحق بالتصديق وأي القولين هو القول الثابت عن المسيح عليه السلام ؟!! .
إن هذه الأمثلة وغيرها تؤكد على أن هذه الأناجيل ليست من وحي الله عز وجل، وأن تلك الأناجيل ما هي إلا كتب اشتملت على حكايات وقصص وأقوال نسبت إلى المسيح عليه السلام، فيها الصحيح والضعيف والحق والباطل ، وإن المنهج الصحيح في معرفة ما في تلك الأناجيل من حق وباطل هو عرضه على القرآن الكريم والسنة النبوية فما أقرا قبُِِِل، وما أنكرا رُدَّ ، وما سكتا عنه فنتوقف في قبوله أو رده ، وبغير هذا المنهج لن نستطيع أن نرجح بين هذه الأناجيل إلا بتحكم لا يقبله المنهج العلمي .
نسأل المولى عز وجل أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .

مغالطات نصرانية والرد عليها


من المزاعم التي يطلقها النصارى ويروجون لها قولهم إن المسلمين وحدهم هم الذين ينظرون إلى الأناجيل نظر شك وريبة، ويصفونها بالتحريف والتزوير، وهذا الزعم صادر عن مغالطة صريحة وإغفال لحقائق التاريخ الثابتة ، إذ من الثابت تاريخيا أن مجمع نيقية ( 325م) هو من قام باختيار الأناجيل الأربعة المعتمدة اليوم عند النصارى من بين مايزيد على سبعين إنجيلاً ، ولم يتم ذلك الاختيار وفق منهج علمي، تم على أساسه قبول ما قُبِل ورَدِّ ما رُدَّ ، وإنما كان الضابط في ذلك ما ظنه رعاة المجمع من عدم معارضة تلك الأناجيل لما تبنوه من القول بألوهية المسيح عليه السلام وأنه ابن الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيرا .
وبالطبع فلم يكن هذا القول ليحظى بموافقة جل المؤتمرين، فقد عارضه جمع عظيم منهم، إلا أن قوة سيف الرومان حسمت الخلاف لصالح من ذهب إلى القول بألوهية عيسى عليه السلام ، وجعلت من المخالفين مبتدعة ومهرطقين، علما أنهم الأكثرية وفيهم عدد من الموحدين الذين نادوا بوحدانية الله لا شريك له وأن عيسى عليه السلام عبد الله ورسوله .
وهكذا قضت قوة الرومان على هؤلاء المخالفين وخاصة الموحدين منهم بالملاحقة والتشريد، فلم ينتشر مذهبهم، بل اضمحل مع مرور الوقت حتى أضحى اليوم – فيما يظهر- من غير أتباع . وسوف نحاول في مقالنا هذا أن ننقل بعضا من مواقف قدماء النصارى الذي حكموا على هذه الأناجيل أو بعضها بالتحريف والتزوير حتى يرى المنصف أن المسلمين ليسوا وحدهم الذين وقفوا من هذه الأناجيل موقف المتشكك والمتهم.
نقل أقوال الفرق النصرانية القديمة التي يعدُّ النصارى أصحابها مبتدعة
أ) الفرقة الأبيونية : ظهرت هذه الفرقة في القرن الميلادي الأول وكانت معاصرة لبولس ، فأنكرت عليه إنكاراً شديداً وعدَّته مرتداً ، وكانت تسلِّم من كتب العهد القديم بالتوراة فقط ، وتسلم من كتب العهد الجديد بإنجيل متىّ فقط، وتختلف النسخة المعتمدة عندهم عن النسخة المعتمدة عند أتباع بولس، فليس فيها مثلا البابان الأولان من إنجيل متى الموجود حاليا؛ لأنها تعتقد أن هذين البابين ومواضع أخرى كثيرة محرفة، وكانت تنكر ألوهية المسيح وتعتقده إنسانا فقط .

ب) الفرقة المارسيونية :من فرق النصارى القديمة أيضا ، وكانت تنكر جميع كتب العهد القديم وتقول : إنها ليست كتباً موحى بها، وتنكر جميع كتب العهد الجديد إلا إنجيل لوقا وعشر رسائل من رسائل بولس ، وهذه الرسائل العشر المسلمة عندها مخالفة للرسائل الموجودة الآن ، وأما إنجيل لوقا فكانت هذه الفرقة تنكر البابين الأولين منه، وتنكر منه مواضع أخرى كثيرة .
ج ) فرقة ماني كيز: ومن أعظم علماء هذه الفرقة "فاستس" الذي عاش في القرن الرابع الميلادي ، وقد نقل "لاردنر" في تفسيره عن "أكستاين" ما يلي: قال "فاستس" : أنا أنكر الأشياء التي ألحقها في العهد الجديد آباؤكم وأجدادكم بالمكر، وعيبوا صورته الحسنة وأفضليته؛ لأن هذا الأمر محقق : إن هذا العهد الجديد لم يصنفه المسيح ولا الحواريون ، بل صنفه رجل مجهول الاسم ، ونسبه إلى الحواريين ورفقاء الحواريين خوفاً عن أن لا يعتبر الناس تحريره ظانين أنه غير واقف على الحالات التي كتبها، وآذى المريدين لعيسى إيذاءً بليغاً بأن ألف الكتب التي يوجد فيها الأغلاط والتناقضات .
فزعيم هذه الفرقة كان ينادي بعدة أِشياء أبرزها :
1- أن النصارى أدخلوا في العهد الجديد أشياء خارجة عنه .
2- أن هذا العهد الجديد المعروف الآن ليس من كتابة المسيح ولا الحواريين ولا تابعيهم ، وإنما هو كتابة رجل مجهول الاسم .
3- أن هذا العهد الجديد وقعت فيه الأغلاط والتناقضات .
وهذا المسلك أعني مسلك الطعن في مصداقية هذه الأناجيل لم يكن محصورا على فرق عدتها الكنائس شاذة ومبتدعة واتهمتها بالهرطقة والشذوذ ، بل إنه ليتجاوز ذلك ليشكل قناعات لدى مفسرين ومؤرخين مقبولين لدى النصارى كافة ، فمن هؤلاء :
أ‌) "آدم كلارك" الذي قال في تفسيره : " أكثر البيانات التي كتبها المؤرخون للرب ( يقصد عيسى) غير صحيحة ؛ لأنهم كتبوا الأشياء التي لم تقع بأنها وقعت يقيناً ، وغلطوا في الحالات الأخر عمداً أو سهواً ، وهذا الأمر محقق أن الأناجيل الكثيرة الكاذبة ، كانت رائجة في القرون المسيحية الأولى، وبلغت هذه الأناجيل أكثر من سبعين إنجيلاً، وكان فابري سيوس قد جمع هذه الأناجيل الكاذبة وطبعها في ثلاثة مجلدات " .
ب) قال "لاردنر" في تفسيره : حكم على الأناجيل المقدسة لأجل جهالة مصنفيها بأنها ليست حسنة بأمر السلطان أناسطيثوس ( الذي حكم ما بين سنتي 491 – 518م ) فصححت مرة أخرى ، فلو كان للأناجيل إسناد ثابت في عهد ذلك السلطان ما أمر بتصحيحها ، ولكن لأن مصنفيها كانوا مجهولين أمر بتصحيحها ، والمصححون إنما صححوا الأغلاط والتناقضات على قدر الإمكان ، فثبت التحريف فيها يقيناً من جميع الوجوه ، وثبت أنها فاقدة الإسناد .
ج) قال "واتسن" : " إن "أوريجن" كان يشكو من الاختلافات ، وينسبها إلى أسباب مختلفة ، مثل غفلة الكاتبين وعدم مبالاتهم، ولما أراد "جيروم" ترجمة العهد الجديد قابل النسخ التي كانت عنده فوجد اختلافاً عظيماً " .
د) وقال "آدم كلارك" في تفسيره : كانت ترجمات كثيرة باللغة اللاتينية من المترجمين المختلفين موجودة قبل "جيروم"، وكان بعضها في غاية درجة التحريف ، وبعض مواضعها مناقضة للمواضع الأخرى ، كما صرح به جيروم .
هـ) قال المؤرخ الإنجليزي "توماس كارلايل" ( المتوفى سنة 1881م): المترجمون الإنكليزيون أفسدوا المطلب، وأخفوا الحق ، وخدعوا الجهال ، ومطلب الإنجيل الذي كان مستقيماً جعلوه معوجاً وعندهم الظلمة أحب من النور ، والكذب أحق من الصدق .
و ) وخاطب "بروتن " كبير المسؤولين في مجلس الترجمة الجديدة في بريطانيا القسيسين قائلا : " إن الترجمة السائدة في إنكلترا مملوءة بالأغلاط، وإنّ ترجمتكم الإنجليزية المشهورة حرفت عبارات العهد القديم في ثمانمائة وثمانية وأربعين ( 848) موضعاً، وصارت سبباً لرد كتب العهد الجديد من قبل أناس غير محصورين".
هذه بعض الأقوال التي نقلها صاحب كتاب إظهار الحق رحمت الله الهندي، وهي جميعها صادرة عن فرق نصرانية أو عن باحثين نصارى معتبرين، وكلها تشهد بتحريف هذه الأناجيل، ومن هنا نعلم أن المسلمين ليسوا وحدهم من قال بتحريف هذه الأناجيل، كما يزعم بعض النصارى، بل إننا نقول : إن كل من ينظر في هذه الأناجيل سواء من ناحية السند أو من ناحية المتن يعلم علما يقينيا أنها أناجيل محرفة، وأن يد العبث قد تدخلت فيها فزادت ونقصت، ولعل في مقالنا " الأناجيل ليست كلمة الله " شيء من الأمثلة على إثبات التحريف في تلك الأناجيل حيث ركزنا على نقد الأناجيل من نصوصها نفسها وليس من شيء خارج عنها .
نسأل المولى عز وجل أن يوفقنا لبيان الحق والدعوة إليه والعمل به ، وأن يهدي قلوبنا لما اختلف فيه من الحق بإذنه إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .

نسخ الإنجيل بالقرآن

نحب أن ننبه بداية أننا ما زلنا على ما أثبتناه من أن الأناجيل التي بأيدي النصارى اليوم ليس أي واحد منها هو الإنجيل الذي أنزله الله على نبيه عيسى عليه السلام ، كما بينا ذلك مفصلا في مقالنا " إنجيل أم أناجيل " ، فإن قيل: إذا لم يكن ما بأيدي النصارى من أناجيل هو الإنجيل الذي أنزله الله على عيسى، فما فائدة إثباتكم القول بنسخ القرآن له ؟ فنقول: إن كلامنا وإن كان في الأصل وارد على إنجيل عيسى عليه السلام أي أننا نرى أن إنجيل عيسى لو كان موجوداً فهو منسوخ بالقرآن الكريم ، إلا أن كلامنا وارد أيضاً على ما بأيدي النصارى من باب التنزل بمعنى أننا نقول لو كانت تلك الأناجيل التي بأيدي النصارى هي إنجيل عيسى عليه السلام فهي أيضا منسوخة بالقرآن .

والأدلة على ذلك كثيرة منها قوله تعالى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ }(المائدة:48) قالابن تيمية: " فجعل القرآن مهيمنا والمهيمن الشاهد الحاكم المؤتمن فهو يحكم بما فيها مما لم ينسخه الله، ويشهد بتصديق ما فيها مما لم يبدل " ومن الأدلة أيضا على نسخ القرآن للكتب السابقة ما رواه أحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فإنه لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني ) ومنها أن المسيح عيسى بن مريم عليه السلام ينزل في آخر الزمان فيحكم بالقرآن والسنة، وليس بالتوراة والإنجيل ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد )رواه البخاري ومسلم.
وعلى نسخ القرآن للكتب السابقة أجمع المسلمون قاطبة في كل عصر ومصر، وليس معنى النسخ هنا إبطال كل ما جاء في الكتب السابقة ، كلا ، فكتب الله عز وجل على تنوعها واختلافها في بعض الأحكام إلا أن نقاط الاتفاق فيها كثيرة، ولا سيما في جانب التوحيد والاعتقاد ، وكذلك في جانب الأخبار فهي في ذلك تتفق ولا تختلف .
إذا ثبت هذا فلننتقل إلى مناقشة النصارى في سبب إنكارهم نسخ القرآن لكتابهم " الإنجيل " ، وقبل ذلك لابد من التنبيه على أن هذه المسألة لا ينبغي أن تكون هي المنطلق في محاورتنا للنصارى ولغيرهم من أهل الكتاب، بل يجب أن تكون نقطة الانطلاق هي إثبات نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعموم رسالته، فإن من يسلم بذلك يلزمه أن يسلم بنسخ الكتب السابقة .
ولكن مناقشتنا إياهم في هذه المسألة على اعتبار أنها أحد أوجه الخلاف بيننا وبينهم فلا بد أن نعطيها حظا من النظر . فنقول وبالله التوفيق .
تمسك النصارى في نفيهم نسخ القرآن للإنجيل بأمرين:
الأول عقلي ، والثاني نقلي ، أما العقلي فقالوا: إن الله لا ينسخ كتابا بكتاب إلا إذا ثبت عجز الكتاب المنسوخ وضعفه، فالله قد نسخ التوراة بالإنجيل لعجز التوراة وضعفها، ولكن الإنجيل ما زال قويا قادرا، ولذلك لم ينسخه الله، وفي هذا يقول بولس: ( فَلَوْ كَانَ الْعَهْدُ السَّابِقُ بِلاَ عَيْبٍ، لَمَا ظَهَرَتْ الْحَاجَةُ إِلَى عَهْدٍ آخَرَ يَحُلُّ مَحَلَّهُ. وَالْوَاقِعُ أَنَّ اللهَ نَفْسَهُ يُعَبِّرُ عَنْ عَجْزِ الْعَهْدِ السَّابِقِ ) انتهى من رسالة العبرانيين .
فهذا كلام بولس الذي يعدونه من الرسل وهو عندهم أعظم من حواريي عيسى عليه السلام ، وفيه من الخطل ونسبة العيب إلى كلام الله عز وجل ما لا يليق أن ينطق به مؤمن، وهذه النظرة إلى مفهوم النسخ أو إلى حقيقته تمثل فارقا هاما مع مفهوم النسخ عند المسلمين، ذلك المفهوم الذي يثبت النسخ دون أن يكون في إثباته ما يوحي بنسبة النقص إلى الله سبحانه، بل يدل على كمال الله سبحانه وعظيم حكمته ، ذلك أن النسخ عند المسلمين بداية إنما يقع في الأحكام فحسب وهو لا يدل على ضعف أو عجر أو قصور في الحكم السابق، بل على العكس يدل على كمال حكمة الله سبحانه في تشريع ما يناسب الناس في مختلف أحوالهم وأزمانهم فما كان مناسبا في زمان قد لا يكون مناسبا في زمان مختلف بأوضاع مختلفة، وما كان مناسبا لأمة قد لا يكون مناسباً لأمة أخرى تختلف عنها، وبالنظر في تفاصيل الأحكام الناسخة والمنسوخة تظهر حكمة الله عز وجل من النسخ .
هذا فيما يتعلق بالرد عليهم من جهة العقل، أما ما احتجوا به من جهة الأثر أو النقل فهو أضعف حجة وأوهن برهاناً ، فقد استدلوا بما ورد في أناجيلهم مما نسب إلى المسيح عليه السلام قوله : " إِنَّ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ تَزُولاَنِ؛ وَلكِنَّ كَلاَمِي لاَ يَزُولُ أَبَداً " وهي حجة ربما بدت قوية في بادئ الأمر، إلا أن ذلك سرعان ما يزول ، ولا سيما عندما توضع هذه الكلمة في سياقها الذي وردت فيه ، فهذه هي الفقرة التي وردت فيها الكلمة المذكورة : فقد جاء في إنجيل متى 29-35 :24 " وَحَالاً بَعْدَ الضِّيقَةِ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ ( قرب نزول عيسى عليه السلام )، تُظْلِمُ الشَّمْسُ، وَيَحْجُبُ الْقَمَرُ ضَوْءَهُ، وَتَتَهَاوَى النُّجُومُ مِنَ السَّمَاءِ، وَتَتَزَعْزَعُ قُوَّاتُ السَّمَاوَاتِ. وَعِنْدَئِذٍ تَظْهَرُ آيَةُ ابْنِ الإِنْسَانِ فِي السَّمَاءِ، فَتَنْتَحِبُ قَبَائِلُ الأَرْضِ كُلُّهَا، وَيَرَوْنَ ابْنَ الإِنْسَانِ آتِياً عَلَى سُحُبِ السَّمَاءِ بِقُدْرَةٍ وَمَجْدٍ عَظِيمٍ. وَيُرْسِلُ مَلاَئِكَتَهُ بِصَوْتِ بُوقٍ عَظِيمٍ لِيَجْمَعُوا مُخْتَارِيهِ مِنَ الْجِهَاتِ الأَرْبَعِ، مِنْ أَقَاصِي السَّمَاوَاتِ إِلَى أَقَاصِيهَا . وَتَعَلَّمُوا هَذَا الْمَثَلَ مِنْ شَجَرَةِ التِّينِ: عِنْدَمَا تَلِينُ أَغْصَانُهَا، وَتُطْلِعُ وَرَقاً، تَعْرِفُونَ أَنَّ الصَّيْفَ قَرِيبٌ. هَكَذَا أَيْضاً حِينَ تَرَوْنَ هَذِهِ الأُمُورَ جَمِيعَهَا تَحْدُثُ، فَاعْلَمُوا أَنَّهُ قَرِيبٌ بَلْ عَلَى الأَبْوَابِ! . الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ يَزُولُ هَذَا الْجِيلُ أَبَداً، حَتَّى تَحْدُثَ هَذِهِ الأُمُورُ كُلُّهَا. إِنَّ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ تَزُولاَنِ؛ وَلكِنَّ كَلاَمِي لاَ يَزُولُ أَبَداً. ) أ.هـ فواضح من خلال هذا السياق أن عيسى عليه السلام أراد باستحالة زوال كلامه ما يتعلق منه بخبر نزوله ، فهو بالتالي خارج عن محل النقاش ذلك أن نقاشنا في نسخ أحكام الإنجيل، لا في نسخ أخباره الثابتة عن عيسى عليه السلام.
ولظهور دلالة السياق على ذلك فقد نص عليه اثنان من كبار شراح الإنجيل، يقول القسيس بيرس مراده شارحا قول المسيح الآنف: " تقع الأمور التي أخبرت عنها يقينا " ، وقال دين استاين هوب : " أن السماء والأرض وإن كانتا غير قابلتين للتبدل بالنسبة إلى الأشياء الأخرى لكنهما ليستا بمحكمتين مثل إحكام إخباري بالأمور التي أخبرت عنها فتلك كلها تزول وأخباري بالأمور التي أخبرت عنها لا يزول بل القول الذي قلته الآن لا يتجاوز شيء منه عن مطلبه ". أ.هـ نقلا عن كتاب إظهار الحق .
ومما يحتج به على القائلين بامتناع النسخ أيضا أن يقال : أليس من المعلوم أن شريعة موسى هي شريعة عيسى عليه السلام ، فعيسى لم يأت بشرع جديد في الجملة ،بل جاء حافظا ومصححا لأوضاع اليهود المبتدعة الخارجة عن شريعة موسى ، فقد قال كما في إنجيل متى 5:17 " لا تظنوا أني جئت لانقض الناموس أو الأنبياء.ما جئت لانقض بل لأكمّل " فأي نسخ للتوراة هو نسخ للإنجيل أيضاً ، فإذا ثبت هذا فنقول لقد ثبت في التوراة تحريم أشياء منها الخنزير والأرنب والوبر وغيرها وهي من شريعة اليهود وبالتالي فالواجب على النصارى التزام ذلك ، فجاء بولس ونسخ ذلك بمجرد رأيه وهواه ، فقد جاء في الرسالة الرومية 14:14 : " إني عالم ومتيقن في الرب يسوع أن ليس شيء نجسا بذاته إلا من يحسب شيئا نجسا فله هو نجس ".
وكان على الداخل في دين المسيح أن يختتن كما هو مقتضى شريعة موسى عليه السلام ، لكن لما رأى بولس وعدد من أتباع المسيح نفور المدعويين من الأمم الأخرى من الختان قرروا إلغاء هذه الشريعة، تحببيا للناس في دينهم الذي يدعون إليه، فلم يكتفوا بنسخ الختان فحسب بل نسخوا جل الشريعة الموسوية ولم يبقوا إلا أربعة محرمات هي حرمة قرابين الأوثان والدم والحيوان المخنوق والزنا .
والدليل على ذلك ما ورد في سفر أعمال الرسل من أن أتباع المسيح عليه السلام لما ذهبوا يدعون الأمم لم يأمروهم بالختان فثار عليهم اليهود المحافظون – الذين تنصروا - وقالوا لهم : إنما بعث عيسى بالمحافظة على شريعة موسى وأنكروا على من تنصر وترك شريعة موسى، وهنا اجتمع المعنيون بالدعوة إلى النصرانية الجديدة وقرروا أن لا يكلفوا الناس بشريعة موسى سوى بأربعة أشياء وهي : تحريم المخنوق والدم والزنا وقرابين الأوثان، وفي ذلك يقول يعقوب كما في سفر أعمال الرسل : ( لِذَلِكَ أَرَى أَنْ لاَ نَضَعَ عِبْئاً عَلَى الْمُهْتَدِينَ إِلَى اللهِ مِنْ غَيْرِ الْيَهُودِ، بَلْ نَكْتُبُ إِلَيْهِمْ رِسَالَةً نُوصِيهِمْ فِيهَا بِأَنْ يَمْتَنِعُوا عَنِ الأَكْلِ مِنَ الذَّبَائِحِ النَّجِسَةِ الْمُقَرَّبَةِ لِلأَصْنَامِ، وَعَنِ ارْتِكَابِ الزِّنَى، وَعَنْ تَنَاوُلِ لُحُومِ الْحَيَوَانَاتِ الْمَخْنُوقَةِ، وَعَنِ الدَّمِ ) فهذا نسخ صريح لمجمل شريعة موسى بمقتضى المصلحة المزعومة وليس بمقتضى نص إلهي آخر .
ونحن لا نناقش في فعل بولس ومن وافقه هل هو حق أم باطل ؟ فذلك له موضع آخر ، ولكننا نستدل بفعلهم هذا على رد دعوى من ادعى عدم جواز نسخ الإنجيل، فهؤلاء الأتباع قد نسخوا ما جاء عيسى بتأكيده والحث عليه وهو العمل بشريعة موسى، وعليه نقول : إذا جاز نسخ بعض أحكام التوراة بالإنجيل بل وبأقوال الأتباع ، وجاز نسخ الإنجيل بأقوال بولس وأتباعه، أفلا يجوز بعد ذلك أن ينسخ الله كتبه التوراة والإنجيل بالقرآن وهو الكتاب الخاتم ، إن جواز ذلك ثابت عقلا ونقلا ، وليس مع من أنكر ذلك من حجة يتكئ عليها سوى المعاندة والكبر .
نسأل المولى عز وجل أن يجعلنا من دعاة الحق العاملين به ، وأن يهدي ضال عباده إليه، إنه خير مأمول ومسئول ، والحمد لله رب العالمين .

المسيح في القرآن ( 3 )


بعد أن طفنا في رياض حديث القرآن عن حياة عيسى - عليه السلام - من ولادته إلى بعثته ، نأتي هنا على قضايا أخرى هي في حقيقتها نقدٌ لما عليه النصارى من آراء، ولعل من أهمِّ تلك القضايا ما يتعلق بحقيقة المسيح وهل هو ابن الله أم لا ؟ وهل حقيقة المسيح لاهوتية أم ناسوتية ؟ أي هل هو إله أم إنسان ؟ وما هو الحق فيما حصل للمسيح في أخريات حياته هل رفع إلى السماء أم صلب على الخشبة ؟ ، تلك من أهم قضايا الخلاف بين الأمتين النصرانية والإسلامية ، ونحاول أن نبين في هذا المقال - من خلال العرض القرآني - الحق القاطع في ذلك ، على أن نرجئ الكلام في نقد أقوال النصارى من واقع كتابهم في مقالات لاحقة .
المسيح والرفع المبارك
لم يسلم عيسى - عليه السلام- من أذى اليهود الذين بُعث لهدايتهم ، حتى بلغ بهم أن شكوه إلى الرومان ليقتلوه ، وهنا تتفق اليهودية والنصرانية على القول بصلب المسيح - عليه السلام- ، ولكلا الطائفتين تفسيرهما لحادثة الصلب ، غير أن القرآن الكريم ينكر ذلك إنكارا قاطعاً ، ويثبت أن المسيح عليه السلام لم يصلب وإنما رفع إلى السماء، وأن الذي صلب هو رجل آخر شبيه بعيسى - عليه السلام - قال الله في بيان وتجلية هذه الحقيقة : { وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً }(النساء:157-158) وقال أيضاً :{ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }(آل عمران:55)

بيان كفر النصارى في اعتقادهم ألوهية المسيح
لقد أوضح القرآن الكريم ضلال ما وصل إليه القائلون بألوهية المسيح - عليه السلام- الذي أرسله الله تعالى داعياً إلى وحدانيته جلا وعلا ، فقد تحول في أذهان هؤلاء إلى إله يُعبد من دون الله ، لذلك وبموجب هذه العقيدة الشركية قد صرح القرآن الكريم بكفرهم، فقال سبحانه :{ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ }(المائدة:72) .
وعظ النصارى بترك الغلو
بعد أن أبان الله حقيقة عيسى - عليه السلام- وأنه رسول من عند الله عز وجل بعثه لهداية الخلق لطريق الحق ، وعظ سبحانه النصارى في غلوهم فيه ، وأمرهم بالانتهاء عن أقوالهم الباطلة ، ودعاهم إلى القول بما أخبر به من أن عيسى عليه السلام عبد الله ورسوله ، فقال سبحانه :{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً }( النساء:171)
المسيح ينفي ما ادعته النصارى فيه
يقول الله جل جلاله في ذلك :{ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ علاّم الْغُيُوبِ }(المائدة:116)، ففي الآية ينفي عيسى - عليه السلام - عن نفسه ما زعمته النصارى فيه من القول بألوهيته وأمه من دون الله جل وعلا ، وفي هذا النفي أعظم الحجة على ضلال النصارى ، لعلهم يرجعون عن غلوهم فيه.

نزول عيسى - عليه السلام - آخر الزمان
وهذا حديث آخر عن عيسى - عليه السلام- ، يخبر فيه رب العزة والجلال عن علامة من علامات الساعة العظام وهي نزول عيسى - عليه السلام- من السماء لينهي بخروجه وانضمامه إلى المسلمين وتمسكه بشريعتهم ، حالة من الجدال بين الأمم الثلاث اليهودية والنصرانية والإسلامية ، قال تعالى مبينا هذه الحقيقة :{ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ }(الزخرف:61) قال ابن عباس في تفسير المراد بالآية : هو نزول عيسى - عليه السلام- ، وقال أيضاً:{ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً }( النساء:159) ومعنى الآية على أحد الأقوال – كما يقول الإمام الطبري - أن من أهل الكتاب من سيؤمن بعيسى وأنه عبد الله ورسوله قبل أن يموت وذلك عند نزوله آخر الزمان لقتال الدجال ، وقد أوضحت السنة النبوية تفاصيل هذا النزول ، وتكلمنا عنه في مقال سابق بما يغني عن إعادته .
وبهذه الأسلوب الرائع الذي حدَّث به القرآن عن شخصية عيسى - عليه السلام- تتشكل في ذهن كل مسلم صورة واضحة المعالم ، صورة - على روعتها - سهلة في فهمها واستيعابها ، ويمكن تلخيصها بكلمات يسيرة ، فعيسى - عليه السلام- وإن كانت ولادته معجزة من أمٍّ بلا أبٍ ، إلا أنه كسائر الرسل فيما سوى ذلك ، فهو بشر أرسله الله عز وجل داعية إلى بني إسرائيل ، وأنزل عليه الإنجيل ، وأيده بالآيات والمعجزات ليكون دليلا وبيانا على صدق نبوته ، وحجة على من خالف وعاند وكفر ،{ ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ }(مريم :34 )، نسأل المولى عز وجل أن يهدينا للحق ، وأن يحببه إلينا ، إنه ولي ذلك والقادر عليه والحمد لله رب العالمين .

المسيح في القرآن ( 2 )


نحاول أن نكمل في هذا المقال ما ابتدأناه من حديث القرآن عن نبي الله عيسى عليه السلام ، وهدفنا من ذلك إيضاح حقيقة ذلك النبي الكريم، وحقيقة دعوته من خلال العرض القرآني الواضح والمتميز، حتى إذا اطلع المرء على البيان القرآني ، علم حقيقة المسيح عليه السلام ، واحتقر تلك الطلاسم والألغاز التي أحاط النصارى بها شخصيته ، فعسر فهمها ، وبعد إدراك حقيقتها ، حتى على كبار قساوستهم ورهبانهم فضلا عن عامتهم ، حتى قيل : لو اجتمع عشرة من النصارى لمناقشة الثالوث لتفرقوا على أحد عشر قولا ، فنحمد الله أن هدانا لما اختلف فيه من الحق بإذنه إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .

عيسى يبشر بنبي الإسلام
من خلال حديث القرآن عن عيسى - عليه السلام - علمنا ببشارته بنبينا صلى الله عليه وسلم ، وهو الأمر الذي حاولت النصارى إخفاءه ، حتى لا تكون حجة عليهم في عدم إسلامهم ، ونسوا أن الحجة البالغة لله وحده ، قال تعالى : { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ }( الصف:6) ، ولا ننسى أن نذكر أن النصارى وإن حاولوا طمس البشارات المتعلقة بنبي الإسلام إلا أن الله قد أعمى أبصارهم عن بعضها – لتكون حجة عليهم – وهذه البشارات سنعرض لها في مقال لاحق مستقل .

معجزات عيسى عليه السلام
ولما كان عيسى عليه السلام أحد الرسل الكرام الذين بعثهم الله لتبليغ دينه ، فقد آتاه الله من الآيات المعجزات ما كان دليلا على صدق دعوته ، فمن ذلك إحياء الموتى ، وشفاء المرضى ، ولا سيما من الأدواء المستعصية كالعمى والبرص ، وغير ذلك من المعجزات مما هو مذكور في قوله تعالى : { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأكمه وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إلا سِحْرٌ مُبِينٌ }( المائدة:110) ، ومن معجزاته عليه السلام ، استجابة الله عز وجل لدعائه في إنزال مائدة من السماء تلبيةً لطلب الحواريين – أصحابه – حتى يزدادوا يقيناً بنبوته ، قال تعالى مبينا هذه المعجزة :{ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ }(المائدة:112- 114)

المسيح يستنصر بالحواريين
اتهم عيسى – عليه السلام - مثلما اتهم غيره من الأنبياء بالسحر ، وأصبح ما آتاه الله إياه من الآيات المعجزات في نظر الجهلة الأشقياء ضرباً من السحر يستوجب الفرار من عيسى لا الإيمان به ، وبهذا أصبحت المعجزة عندهم سبباً للنفور والإعراض بدلاً من أن تكون سببا للهداية والإذعان ، وأمام هذا النفور العام من بني إسرائيل طلب عيسى عليه السلام النصرة في نشر الدعوة وإبلاغ الدين من الحواريين فأجابوه إلى ما دعا ، وأصبحوا من خاصته ، قال تعالى مخلداً هذا الموقف الكريم من الحواريين :{ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}(آل عمران:52) .
ونقف عند هذا الموقف ، لنكمل حديث القرآن عن عيسى عليه السلام في مقال آخر ، سائلين الله عز وجل أن يجعل ما نكتبه خالصا لوجهه الكريم ، وأن ينفع به قارئيه ، إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير ، والحمد لله رب العالمين .

المسيح في القرآن ( 1 )
أبدى القرآن الكريم اهتماما بالغاً بشأن نبي الله عيسى عليه السلام ، فابتدأ سرد قصته بذكر ولادة أمه، ونشأتها نشأة الطهر والعفاف والعبادة والتبتل، ثم ذكر إكرام الله تعالى لها بأن رزقها غلاما دون أب، حيث أرسل لها جبريل - عليه السلام – ليبشرها به، ولينفخ فيها فتحمل بعيسى عليه السلام ، ثم ذكر رعاية الله لها أثناء حملها ، ورعايته لها أثناء ولادتها به ، ثم حديثها مع بني إسرائيل واستنكارهم الولد، وكلام عيسى في المهد تبرئة لأمه مما قذفها به اليهود ، وغير ذلك من أحداث .
كل هذا الاهتمام القرآني جاء ليبين ضلال من ضل في عيسى عليه السلام سواء ممن كفر به ورماه بأفحش السب وأقذعه، أو من آمن به وغلا في الإيمان به حتى رفعه إلى مقام الألوهية والربوبية فجعله إلها مع الله سبحان الله وتعالى عما يشركون .
وجاء هذا الاهتمام القرآني كذلك ليبين حقيقة دعوة عيسى عليه السلام بما يدحض مزاعم الكافرين به والغالين فيه فجاء بيانه غاية في الوضوح والجلاء ، فلم يدع شبهة إلا أزالها ، ولا حقيقة إلا أبانها ، ولنأت على ذكر ذلك بشيء من التفصيل :

الميلاد المعجزة
أوضح القرآن الكريم كيفية حمل مريم بعيسى عليه السلام ، قال سبحانه في بيان ذلك : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً }( مريم:16- 19) ، وأوضح في آية أخرى أن جبريل عليه السلام نفخ في مريم فكان الحمل بإذن الله ، قال تعالى :{ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ }(التحريم:12) .


المسيح يحيى حياة البشر
بعد ولادة عيسى عليه السلام ، عاش حياة طبيعية جدا ، يأكل مما يأكل البشر ، ويشرب مما يشربون ، ويذهب لقضاء حاجته ، إلى غير ذلك مما تقتضيه الطبيعة البشرية ، وقد ذكر القرآن هذه الحقيقة ، في إشارة للرد على النصارى الذين ادعوا ألوهيته – عليه السلام - ذلك أن أخص وصف للإله الغنى المطلق ، ومن يحتاج إلى الطعام والشراب لإقامة صلبه ، كيف يوصف بالألوهية ، قال تعالى مبينا هذه الحقيقة :{ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ }(المائدة:75)

إزالة الإشكال في ولادة عيسى عليه السلام من غير أب
استغل اليهود ولادة المسيح - عليه السلام - من غير أب ليطعنوا في نبوته إذ اتهموا أمه بأبشع وصف، والأمر أضعف من ذلك ، فإن من الأنبياء من أقرَّ الكل بنبوته بمن فيهم اليهود أنفسهم ، ووجوده أبعد في العادة البشرية وأكثر إعجازا من وجود عيسى - عليه السلام - إنه آدم - عليه السلام – حيث خلق من غير أب ولا أم ، فمن آمن بآدم لزمه ضرورة أن يؤمن بعيسى، قال سبحانه وتعالى : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }(آل عمران:59) .

بيان رسالة المسيح عليه السلام
لم يفتأ القرآن الكريم يُذكِّر بحقيقة عيسى - عليه السلام - وحقيقة دعوته ، وأنه ما هو إلا رسول من عند الله بعثه لتبليغ دينه ، وإعلاء شريعته ، فمرة يذكر هذه الحقيقة بصيغة الحصر ، كقوله تعالى :{ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ }(المائدة:75) ، وتارة يذكر المسيح في معرض ذكره للرسل الكرام عليهم السلام ، على اعتبار أنهم إخوانه وهو واحد منهم ، كقوله تعالى : { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً }(النساء:163) وغيرها من الآيات التي تدل دلالة قاطعة على أن عيسى عليه السلام ما هو إلا رسول من عند الله عز وجل .

هذا بعض حديث القرآن عن نبي الله عيسى الذي ضل فيه اليهود والنصارى على السواء واهتدى أهل الإسلام لحقيقته وحقيقة دعوته ، وسوف نكمل الحديث عنه في مقالات لاحقة ، نسأل المولى عز وجل أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .

نشأة النصرانية وتطورها ( 2 )


كنا قد تكلمنا في مقال سابق عن نشأة النصرانية وتطورها ، ووصلنا إلى الطور الذي تحولت فيه النصرانية من دين مضطهد إلى دين رسمي ، وذلك بعد أن اعتنقه ملك الرومان قسطنطين ، وأصدر مرسوما ملكيا باعتبار الدين النصراني دينا مسموحا به في الدولة الرومانية ، وأرجع أملاك النصارى المصادرة ، ورد لهم هيبتهم بين الناس .
غير أن فترة الرخاء تلك قد أظهرت ما كان مستترا فترة الاضطهاد من التفرق والاختلاف في المذاهب والآراء حول قضايا جوهرية من العقيدة النصرانية ، الأمر الذي أقلق الملك قسطنطين فما كان منه أمام هذه المعضلة إلا أن عقد مجمعاً – مجمع نيقية سنة 325م – دعا إليه علماء النصارى ليتباحثوا فيما آل إليه أمر النصرانية من التفرق والشتات في المذاهب والآراء ، فحضر المجمع – حسب تقدير بعض مؤرخيهم - ( 2048 ) أسقفاً ، وكانت آراءهم متباينة أشدَّ التباين ، فمنهم من يقول : إن المسيح وأمه إلهان ، وهم البربرانية ، ومنهم من يقول : إن المسيح من الأب بمنزلة شعلة نار انفصلت من شعلة نار فلم تنقص الأولى بانفصال الثانية منها ، ومنهم من كان يقول : لم تحبل مريم بعيسى تسعة أشهر ، وإنما مرَّ في بطنها كما يمرُّ الماء في الميزاب ، ومنهم من كان يقول : إن المسيح إنسان مخلوق من اللاهوت ، ويرون الله جوهراً قديماً واحداً ، وأقنوماً واحداً ، ولا يؤمنون بالكلمة ، ولا بالروح القدس ، إلى آراء كثيرة متعارضة متناقضة ، فاجتمع الأساقفة لمناقشة تلك الآراء ، فاختلفوا اختلافا شديداً ، ورأى ( 318 ) أسقفاً القول بألوهية المسيح ، وأنه ابن الله - في زعمهم - أي من ذات الله ، وأنه مساو لله جل وعلا ، وأنه مولود منه غير مخلوق ، كما رأوا أن هذا الإله تجسد في صورة البشر لخلاص الناس ثم ارتفع إلى السماء بعد قيامته من الموت ، فاستهوى هذا الرأي الملك الروماني ، فقرره ، وفرضه على بقية الأساقفة ، وقرروا لعن رأي أريوس الذي كان يعتقد أن المسيح عبد مخلوق محدث بعد أن لم يكن ، ولم يكن المخالف هو أريوس وأتباعه وحدهم ، بل إن جل المجتمعين لم يوافقوا على قرارات المجمع ، وإن لم تتفق آراؤهم فيما بينهم .
غير أن قوة السيف كانت هي الحكم في نهاية المطاف فاختتم مجمع نيقية جلساته بتلك القرارات ، وأصبح من يخالف تلك الآراء متهماً بالهرطقة – الكفر – معرضا نفسه للمحاسبة والعقاب الشديد ، فعاشت النصرانية طورا آخر من أطوار الاضطهاد ولكنه بسيف النصرانية هذه المرة .
ونظرا لأن قرارات مجمع نيقية لم تتخذ بناء على دلائل وبراهين يسلم بها المخالف ، ويقتنع بها الموافق ، فقد طرأ للملك الروماني ما جعله يغير رأيه ويرجع إلى رأي أريوس ، فعقد مجمعا آخر - مجمع صور سنة 334م – رجع فيه عن القول بألوهية المسيح ، وقرر فيه إعادة أريوس إلى الكنيسة وخلع " أثنا سيوس " وكان من أشدِّ أنصار قرارات مجمع نيقية ، وبهذا يتبين مدى تلاعب الإمبراطور بهذا المجمع الهام في تاريخ النصرانية ، ويتبين مدى خلو تلك المجامع عن منطق الحجة والدليل في إقناع المخالف ، واعتمادهم على قوة سلطة الحاكم في ترجيح الآراء ، وذلك في أعظم القضايا وأخطرها .
لهذا لم تكن تلك المجامع ذات أثر عملي في فض النزاع ، فما إن يعود كل أسقف إلى بلده وموطن دعوته حتى يظهر ما كان يدعوا إليه إن سرا وإن جهراً ، وكأن شيئا لم يكن ، وهذا ما دعا النصارى إلى تكرار سنة الملك الروماني في عقد المجامع – علَّها أن تحلَّ خلافاتهم – فعقدوا مجامع أخرى كمجمع القسطنطينية ( 381م ) ، ومجمع أفسس ( 431م ) ومجمع خلقدونية ( 451م ) ، والمجمع الثامن ( 869م ) والذي قرر فيها قول كنيسة روما بأن الروح القدس انبثق من الأب والابن معا ، ولم يوافق على ذلك بطريرك القسطنطينية فانقسمت الكنيسة بسببه إلى قسمين :
1- الكنيسة الغربية ويتزعمها البابا في روما وهم الكاثوليك .
2- الكنيسة الشرقية ويتزعمها بطريك القسطنطينية وهم الأرثوذكس .
ثم انعقد المجمع الثاني عشر الذي عقد سنة 1215م وتقرر فيها أن العشاء الرباني - شعيرة من شعائر النصارى – يتحول إلى جسد ودم المسيح ، وأن الكنيسة البابوية الكاثوليكية تملك حق الغفران ، وتمنحه لمن تشاء .
ثم انعقد مجمع روما 1769م وتقرر فيه عصمة بابا روما .
فهذه لمحة تاريخية عن المجامع النصرانية التي لعبت دورا هاما في إقرار أو رفض ما تراه من المذاهب والآراء ، ولكنها لم تحقق ما كانت تهدف إليه من تجمعهم ، بل لا يخرج المجتمعون من مجامعهم تلك إلا وهم أشدُّ تفرقاً وأعظمُ نفوراً ، فمجامعهم كما وصفها ابن القيم: " كانت تجتمع على الضلال ، وتفترق على اللعن، فلا ينفض مجمع إلا وهم ما بين لاعن وملعون " أهـ . ، فهم كما وصفهم سبحانه { قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ }(المائدة: من الآية77) ، نسأل المولى عز وجل أن يثبتنا على دينه ، وأن يبعثنا عليه ، ونحمده تعالى أن جعلنا من عباده المسلمين ولم يجعلنا يهودا أو نصارى مغضوبا عليهم وضالين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

نشأة النصرانية وتطورها ( 1 )

النصرانية هي الدين الذي بعث الله به عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل ، ليجدد به شريعة موسى - عليه السلام - ، بعد أن ضل بنو إسرائيل عن الاهتداء والعمل بها ، فآمنت به طائفة قليلة سموا نصارى لنصرتهم نبي الله عيسى – عليه السلام – وكفر به غالبية اليهود وآذوه ، ووشوا به إلى ملك الرومان الذي أمر بقتله مصلوبا ، فنجاه الله من كيد اليهود ومكرهم ، بأن رفعه إليه ، كما قال تعالى : { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً }(النساء:158) ، وبرفعه - عليه السلام - إلى السماء ، بدأت مرحلة جديدة من مراحل النصرانية ، وهي مرحلة الاضطهاد والتشرد ، إذ تسلط الرومان - بتحريض من اليهود - على أصحاب عيسى - عليه السلام - فمنهم من قتلوه ، ومنهم من فرَّ بدينه مشرَّداً في كل مكان ، ومع ذلك فقد ظلوا صابرين محتسبين قائمين بواجب الدعوة إلى دين عيسى - عليه السلام - دين التوحيد الخالص قبل أن تعبث به أيدي المحرفين العابثين .
وفي أثناء هذه المرحلة دخل في دين النصارى شقي النصرانية ومبدلها شاءول اليهودي - وهذا اسمه العبراني أما اسمه الروماني فهو بولس - ، وكان دخوله في دين النصرانية محل شك وريبة من حواريي عيسى - عليه السلام - وذلك لما كان يدعوا إليه من آراء ومذاهب شاذة ، ولما كان عليه قبل تنصره من أذى النصارى وتعذيبهم ، وتحوله فجأة إلى النصرانية ، بل والدعوة إليها ، ويذكر مؤرخوا النصرانية حكاية تبين سبب ذلك ملخصها أنه بينما كان في طريقه إلى دمشق ليعذب المسيحيين الذين فيها .. إذ سطع حوله نور من السماء فسقط على الأرض ،وسمع هاتفاً يناديه يقول: ( شاءول ، شاءول ، لم تضطهدني؟ فقال: من أنت؟ فأجابه الصوت: أنا يسوع الذي تضطهده !! فقام وهو مرتعد ومتحير: يا رب ماذا تريد أن أفعل ؟ فقال : قم وكرز – ادعوا - بالمسيحية ) (أعمال الرسل) الإصحاح التاسع (3-6) ، ويقولون أنه صار بعد ذلك من أنشط دعاة المسيحية وأنه رافق برنابا أحد أنشط أتباع المسيح مدة، ثم اختلف معه خلافاً شديداً وفارقه .. (أعمال الرسل 15/39) .
وكان لبُّ دعوة بولس يدور حول القول بألوهية المسيح - عليه السلام – وأنه المخلص للبشر من خطاياهم ، وعلى ذلك فلا حاجة للعمل بالشريعة ( التوراة ) ، ومما دعا إليه بولس أيضا عالمية دعوة عيسى – عليه السلام – وأنها ليست مختصة ببني إسرائيل ، وبذلك أدخل بولس تغييراً عظيماً على دين النصارى ما دفع كثيراً من الباحثين كمايكل هارت صاحب كتاب المائة الأوائل إلى القول : ( إن مؤسس الديانة المسيحية بشكلها وتركيبتها الحالية هو بولس وليس المسيح …!) إلا أن هذا التغيير العقائدي الذي أدخله بولس على النصرانية قد قوبل بمجابهة شديدة من دعاة التوحيد ولا سيما حواريي عيسى – عليه السلام – الذين نفروا من بولس وآرائه ، وحذروا الناس منه ، ومن يقرأ رسائل بولس واتهامه لمخالفيه ورميه لهم بأقبح السباب يعلم عظم ما بينهما من خلاف ، والذي استمر بينهما وبين أتباعهم من بعدهم عقوداً متتالية ، حتى جاء ما يسمى بعهد الرخاء النصراني والذي تحول فيه دين النصارى من دين مضطهد ، يتوارى أتباعه ويتخفون من بطش الرومان وجبروتهم إلى دين رسمي ، وذلك بعد أن اعتنقه ملك الرومان قسطنطين الأول أو الأكبر الذي حكم من سنة 306 إلى سنة 337م . وقد اعتنق قسطنطين النصرانية في عام 312م فكان أول من تنصر من ملوك الروم .
وبهذا الحدث ارتفع سوط وسيف الجلاد عن ظهور ورقاب المسيحيين ، وانقضى عهد الاضطهاد ، فانتشرت المسيحية ، وانتعشت الدعوة إليها ، ولكنها لم تلبث إلا يسيراً حتى تعرضت – وباسم المسيحية هذه المرة – إلى اضطهاد ربما كان أعظم وأبشع مما تعرضت له من قبل ، وهذا ما سنتكلم عنه في مقال لا حق ، نسأل المولى عز وجل أن يحفظ دينه ، ويعز أهله ، إنه ولي ذلك والقادر عليه والحمد لله رب العالمين .